أريج المحيا

هل لك أن تتخيل مخلوقا غريبا لا يستطيع الحركة ولا التكاثر ولا القدرة على القيام بالتواصل بشتى أشكاله، أن يعيد حسابات هذا العالم بين ليلة وضحاها. هذا المركب الأشبه بالجماد المسمى بفيروس كورونا (COVID-19) جعل اقتصاد الصين يسعل، وضيق أنفاس القارة العجوز. ففي أسابيع استطاع أن يسلب باريس سحرها، وأن يحول ضباب لندن إلى أشباح، وأن يقطع كل الطرق المؤدية إلى روما.

وهو ما زال في نزال مع الدب الروسي، ركب البحر إلى بلد الأحلام أمريكا ليحولها إلى بلد الكوابيس. رغبة منه تحويل تمثال الحرية إلى تمثال البشرية.

فبشفرته الوراثية التي تقاس بالنانو هيمن على وحدة الحياة، وهي الأكسجين، ومنها غيّر ثلاثة محاور أساسية، الصحة والمال والقيم.

سور الصين لم يعد حاميا، وعظمة بريطانيا لم تعد تجدي نفعا، وأرض الأفكار النيرة ألمانيا -كما وصفها هورست كوللر- لم تستطع أن تقف في وجهه، وجميع أسلحة العالم النووية عاجزة عن إخراجه من خلية رئوية واحدة.

استطاع أن يقلب المفاهيم بالرغم من أن الحقائق واحدة. فالجدار الذي بني ليحمي أمريكا أصبح الآن حامياً للمكسيك، ومن كان يصف المافيا لصوصا أصبح الآن يصفهم أبطالا، ومن كنا نراهم رموزا للسلام والمحبة أصبحوا الآن أعداء الإنسانية، حتى إن نظرتك لبيتك اختلفت، فجدرانه التي كنت تراها أمانا أصبحت الآن تراها سجنا.

استطاع أن يجعل الملايين عاطلين عن العامل وكثيرا من الشريكات في صدد أن تعلن إفلاسها. ففي آخر إحصائية أصدرتها «Bloomerg» وضحت الهبوط الحاد الحاصل في أسواق التجارة العالمية ومتوقع الأسوأ في المستقبل.

حتى القيم التي توارثناها وبنيناها أعاد صياغتها. فجعل بُعدك عن والديك برًّا، وعزلك لنفسك خيراً، وتركك وظيفتك ومصدر رزقك واجباً، ورفضك مساعدة الآخرين فضيلة، وصلاتك في المسجد مضرة.

من هذه الحرب أصبحت كلمة فيروس مسببة للذعر والخوف، حتى إنها تستعمل كمسبة، وتطلق للشخص الذي يسبب الضرر لمن حوله.

لكن هل جميع الفيروسات كورونا؟

هناك مثل صيني يقول «أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام». في الكرة الأرضية يوجد 1031 تعدادا فيروسيا، أكثر من نصفهم يوجد في المحيطات فقط. هذا العدد الهائل يخبرك بأن لوجودها قيمة في التوازن البيئي قد يفوق قيمة وأهمية وجود الإنسان في هذا التوازن.

منذ آلاف السنين، استطاع الفيروس أن يطبع شفرته الوراثية في التسلسل الجيني لأجدادنا وجعلهم يمررون هذه الشفرة لنا، حتى أصبحت تشكل 5–8% من تركيبنا الجينومي دون أن نشعر بأعراض ممرضة، بل بالعكس كان لها فائدة في إعادة تنشيط صنع بروتينات مهمة في الجسم.

بالرغم من أن كلمة فيروس -عاميا- مربوطة بالمرض، إلا أنه يستخدم كعلاج. فيروس باكتيروفيج (Bacteriophages)، أثبت هذا الفيروس جدارته كاستعمال خط علاج أولي في الإنسان للقضاء على البكتريا الممرضة، والتي قد تكون قاتلة. واستعمل الفيروس أيضا لعلاج السرطان، وساعد في العديد من الأبحاث. فالفيروسات مثل أصابعنا لا تشبه بعضها.

سواء كان حدوث كورونا مقدرا من الخالق أم مفتعلا من الإنسان فقد خرج من بين أقرانه ليعلم بني البشر بعض الدروس بطريقته القاسية، ومنها: الإنسان قبل المال، فإذا خسرت الإنسان من المؤكد ستخسر المال. ثانيا، لا تثق بيد جاهل ممدودة لك. أخيرا، إننا لسنا أسيادا على هذه الأرض، فالعالم باستطاعته الاستمرار من غيرنا.

(أخصائية أمراض وراثية حاليا باحثة دكتوراه في بريطانيا)