رغم نواقص حكم مبارك إلا أن أحداً لا يستطيع أن ينكر أن أكبر هامش من الحرية والديموقراطية كان في عهد مبارك، ومع ذلك تظل مسؤولية عهد مبارك مسؤولية مصر كلها على كافة المستويات
سبق أن كتبت تحت عنوان (مصر ليست عهد مبارك فقط!)، وقلت: ورِث عهد مبارك الدكتاتورية السياسية من عهدي عبد الناصر والسادات، كما هو معروف. كما ورِث الفساد المالي والإداري عن هذين العهدين كذلك. وهو الفساد المالي والسرقات، التي تمّتَ خلال تطبيقات سياسة التأميم في عهد عبد الناصر، وما حاز عليه الضباط، الذين أشرفوا على تنفيذ سياسة التأميم، من مجوهرات، وأموال، وعقارات، وخلافها، نقرأ عنها بالتفصيل في كتاب المؤرخ المصري حسين مؤنس باشوات وسوبر باشوات، وكتاب الباحث المصري شفيق مقار قَتلُ مصرَ: من عبد الناصر إلى السادات.
كما قلت: لفت نظري في آراء المصريين عن عهد مبارك، أن معظمهم يعتبر أن الفساد كله كان في عصر مبارك وبسببه، وأن مصر الفساد هي حكم مبارك، وأن حكم مبارك هو مصر الفاسدة. ورغم نواقص حكم مبارك منذ ثلاثين سنة حتى 12/2/2011، إلا أن أحداً لا يستطيع أن ينكر أن أكبر هامش من الحرية ـ وخاصة حرية الرأي ـ وأكبر هامش من الديموقراطية ـ تذكروا أن مصر عربية، وتعيش في قلب العالم العربي، ولها من أمراضه، وعلاّته الشيء الكثير ـ تمَّ في عهد مبارك، علماً أن مبارك نفسه، وحزبه الوطني، والمعارضة، وأنتم، وأنا، نعتبر هذه الحرية ناقصة، وأن تلك الديموقراطية شكلية، ولكن قياساً مع ما في العالم العربي، الذي تعتبر مصر جزءاً لا يتجزأ من قيمه السياسية، والاجتماعية، والثقافية – رضينا أم أبينا، وافقنا طه حسين، ولويس عوض، وتوفيق الحكيم، وحسين فوزي، ومجموعة الانعزاليين كما وصفهم الناقد الراحل رجاء النقاش في كتابه الانعزاليون في مصر أم عارضناهم - فإن مصر كانت تعيش في حرية نسبية، وكانت تعيش في ديموقراطية نسبية أيضاً.
أقنعة الناصرية السبعة
كتب المفكر والناقد المصري الراحل لويس عوض كتابه (أقنعة الناصرية السبعة) الذي يناقش فيه توفيق الحكيم من خلال كتابه الشهير (عودة الوعي) كما يناقش حسنين هيكل من خلال كتابه (بصراحة عن عبد الناصر)، وهو مجموعة الأسئلة التي طرحها الصحفي اللبناني فؤاد مطر على هيكل. ولفت نظري في هذا الكتاب المهم الذي يجب أن نعيد قراءته الآن مرات ومرات لكي نفهم ما يدور في مصر، قول لويس عوض إن أخطاء ومصائب عهد عبد الناصر ليست من مسؤولية عبد الناصر وحده شخصياً فقط، بقدر ما هي من مسؤوليتنا نحن المثقفين أيضاً. فكما كان عبد الناصر هو المسؤول الأول عن عهده وعن هزيمة 1967 وكان باقي الشعب بكافة طوائفه وأجهزته، هم المسؤولين من بعده، فكذلك الحال كان مع مبارك.
أخطاء عبد الناصر ومبارك
علماً – وهذا رأيي الشخصي ولا أُلزم به أحداً – أن أخطاء عهد عبد الناصر قد فاقت أخطاء عهد مبارك. فعهد مبارك امتاز بالفساد، في حين أن عهد عبد الناصر امتاز بالفساد والهزيمة العسكرية الماحقة في1967. كما امتاز عهد عبدالناصر بالدكتاتورية المطلقة، فلا أحد كان يجرؤ ـ كما يقول لويس عوض في كتابه (ص 23) ـ أن يقول لا لعبد الناصر في كل ما قرر، وفي كل ما فعل، في حين كانت صحافة المعارضة، في عهد مبارك – وخاصة في السنوات الأخيرة من عهده – تقول لا، في كثير من القضايا. صحيح أنه تمَّت ملاحقة ومحاكمة بعض الصحفيين – الصحفي إبراهيم عيسى مثالاً – في عهد مبارك، ولكن لم تصل نتيجة المحاكمات إلى السجن المؤبد أو الإعدام، كما تم في عهد عبد الناصر في الستينات، حين تم إعدام قادة الإخوان المسلمين، وعلى رأسهم سيّد قطب.
أخطاء عهدين: عسل وحنظل!
يقول لويس عوض في كتابه: كان هناك - في العهد الناصري - بعض الناس، يستنكرون كلما سمعوا بإهدار حقوق الإنسان، أما الأغلبية فقد كانت دائماً بين ساكتة وراضية ومصفقة لنفس الأخطاء الناصرية التي تندد بها اليوم. (ص 32)، فما الذي تغير في الرأي العام المصري من عام 1960 وما بعد ذلك إلى عام 2005 وما بعد ذلك وحتى مطلع 2011؟
إن ما حصل في عهد مبارك من جرأة وشجاعة وإقدام على النقد على سلبيات عهد مبارك والثورة عليه في النهاية، مرده إلى عوامل كثيرة لم تكن متوفرة في عهد عبد الناصر منها:
1- لم تكن شخصية مبارك شخصية قومية كاريزمية قوية كشخصية عبد الناصر، وكان مبارك يردد باستمرار: أنا لست عبد الناصر، ولست السادات كذلك.
2- إن الأخطاء الوطنية والقومية كانت أقل من أخطاء عهد عبد الناصر.
3- إن أخطاء عبد الناصر في اليمن 1962 وفي عام 1967، كلّفت الخزينة المصرية مليارات الدولارات وكانت سبباً رئيسياً في إفقار مصر، وعجزها المالي، ورغم ذلك لم يثر عليه المصريون.
4- إن عهد عبد الناصر لم يتح ولم يسمح لأحد بانتقاده نقداً سلبياً، في حين أن عهد مبارك قد سمح بذلك، رغم أن سياسة مبارك كانت تقول: لنفعل ما نشاء، وليقولوا ما يشاؤون! فكان هذا العهد يزداد خطأً يوماً بعد يوم، ونقد العهد والتبرم منه يزداد يوماً بعد يوم، إلى أن كان الانفجار في 25 يناير 2011.
5- حدثت في عهد مبارك ثورة المعلومات والاتصالات، وهي الثورة الثالثة المهمة في التاريخ البشري، والتي أمكنت الربيع العربي من الانتشار السريع على النحو الذي نراه الآن، في حين أن ثورة المعلومات والاتصالات لم تكن قائمة في عهد عبد الناصر، ولعل العكس كان قائماً، فقد كان الإعلام المصري ومعظم الإعلام العربي في غيبوبة قومية وسياسية. وكان كثير من الإعلام العالمي مخدوعاً، نتيجة لما كان يقوله الإعلام المصري والإعلام العربي، من تمجيد وإشادة بإنجازات وتحقيقات عبد الناصر القومية والسياسية.
6- لم يكن الوضع الإقليمي ولا الدولي في عهد عبد الناصر على ما كان عليه في عهد مبارك. ففي عهد عبد الناصر، وخاصة في حرب السويس 1956، كان العرب متعاطفين مع عبدالناصر، وكان الغرب والشرق (أميركا والاتحاد السوفيتي) إلى جانب مصر في صدِّ عدوان حرب السويس، في حين أن العالم لم يفعل شيئاً لحماية نظام مبارك، بل إن الجميع – كما يبدو الآن – تخلوا عنه وتركوه نائماً في المستشفى العسكري.
وتظل مسؤولية عهد مبارك ليست مسؤوليته وحده، بقدر ما هي مسؤولية مصر كلها، على كافة المستويات.