بالعودة مرة أخرى إلى المقال الافتتاحي للعدد الثالث والثمانين من مجلة الوعي والصادر عام 1414، والذي نُشِر تحت عنوان «العمل لإقامة الخلافة الإسلامية فرض عين، بأقصى سرعة وبأقصى طاقة»، فإن بإمكاننا أن نرى في عبارة «بأقصى سرعة وبأقصى طاقة» واحدة من آليات الخطاب في فرض سلطته وهيمنته على المتلقين له، ليس ذلك باستخدام اللغة فحسب، وإنما باستخدام تقنيات تتصل بحقل العمل الإعلامي كذلك، وعلينا أن نلاحظ أنه حين تُستَل تلك العبارة من ثنايا المقال لتصبح جزءا من العنوان، على ما في ذلك من خلل في أسلوب العنونة التي جرى العرف الصحفي أن تكون العناوين موجزة لا تقبل صياغتها الدخول في التفاصيل أو استخدام الفواصل والنقاط، حين تقفز تلك العبارة لتصبح جزءا من العنوان فإن ذلك يعني أن الخطاب يستخدم اللغة منذ البدء باعتبارها سلطة تقتضي القيام بفعل تم تحديد وقت القيام به، وكذلك الطريقة التي ينبغي أن يتم بها، اللغة لا تنقل معلومة أو تكشف عن فكرة، وإنما هي معلومة تستهدف تحقيق فعل يجمع بين الديني والسياسي ممثلا في الخلافة التي تم التأكيد عليها على أنها فرض عين، وأن يتم تحقيق ذلك على نحو عاجل وبأقصى طاقة كذلك.
المطالبة بتحقيق ذلك الفعل بأقصى طاقة تبطن في داخلها فعلا آخر، يحقق للخطاب قدرته على الهيمنة، فالعبارة تظهر أمرا في الوقت الذي تبطن فيه أمرا آخر، أو على نحو أدق تنهى عن أمر آخر، يتمثل الأمر الآخر في النهي عن التروي والتفكير، الخطاب يفعل فعله حين يقوم بالحيلولة بين من يتوجه لهم والتفكير، يقوم بتعطيل تفكيرهم لتحويلهم إلى ذوات خطابية، التأكيد على أن إقامة الخلافة قد أصبحت أمرا محسوما، لا مجال لمناقشته أو إبداء الرأي فيه، وكل الذي يتوجب عليهم القيام به هو بذل أقصى ما يستطيعون لإقامة هذه الخلافة.
وما دام قد تقرر للخطاب تقرير أن إقامة الخلافة فرض عين بما قدمه في عنوان المقال وما بسط القول فيه في فقرته الأولى، فليس من عليه بعد ذلك إلا التذكير بالعبادات وما يتنزل القيام به منزلة الوجوب الذي لا يؤذن للمسلم التباطؤ في القيام به ليقيس عليها أمر الخلافة، (وأما العمل لإقامة الخلافة بأقصى سرعة، فإن هذا أيضا قطعي الثبوت قطعي الدلالة، ذلك أن الأحكام الشرعية التي أنزلها الله تصبح مطلوبة التنفيذ منذ تبليغها، وحين نزل حكم تحويل القبلة من بيت المقدس إلى المسجد الحرام تحوّل المصلون حين بلغهم الأمر فوراً وهم في الصلاة. فالأصل في تنفيذ الأحكام أنه على الفور وليس على التراخي إلا إذا دل الدليل على ذلك، فحين يقول الله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ} أو يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ} أو يقول رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكراً فليغيره»، فكل هذا مطلوب فورا. وكذلك النصوص التي جاءت متعلقة بعمل الدولة من إقامة الحدود، والقضاء بين الناس، وحمل الدعوة للعالم بالجهاد، وحماية الثغور، وتنفيذ أحكام الشرع على الرعية كلها مطلوبة فورا. أضف إلى ذلك أن المسلمين لا يجوز أن يظلوا فوق ثلاثة أيام بدون خليفة يطبق الشرع. والرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول: «ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية»، ولذلك ليس هناك من عذر لمن يقول مثلا: (أنا سأعمل لإقامة الدولة الإسلامية ولكن ليس الآن بل بعد أن أتخرج من الجامعة). أو يقول: (بعد إنهاء المشروع الذي أنا فيه) أو ما شاكل ذلك. لأن العمل عند الاستطاعة واجب فوراً، وتركه هو معصية).
ويكشف ذلك القياس وتلك الاستدلالات التي يتم استرفادها من أحكام قطعية الثبوت عن مخاتلات الخطاب، أو مكره، حسب تعبير الدكتور عبدالله الخطيب عند حديثي معه حول هذه المسألة، فهو قبل أن يتيح لمتلقيه التفكير فيما قطع به من اعتبار إقامة الخلافة فرض عين يقفز بمتلقيه إلى ما يترتب على ذلك من القيام بذلك الفرض على نحو ما يفعل مع بقية الفروض التي يسلم بواجبه في القيام بها.
وكما أن مشروع إقامة الخلافة في جوهره مشروع تقويض لأنظمة الحكم القائمة، فإن اعتبارها فرض عين يتوجب على جميع المسلمين القيام به يعني في جوهره تعطيل أي عمل آخر عداها، وهذا لا يعني تجييش جميع «الأمة» لإقامتها، وإنما يعني تعطيل كافة الأعمال التي ينهض بها المسلمون كذلك، بما فيها الدراسة وطلب العلم، يفاضل المقال بين الأولويات مؤكدا: (حين نقول بأن المسلم يجب عليه الآن وجوبا عينيا أن يعمل لإقامة الدولة الإسلامية بأقصى طاقته فهذا يعني أن عليه أن يترك كثيرا من الأعمال المباحة وكثيرا من الأعمال المندوبة إذا كانت تشغله عن القيام بهذه الفريضة. فالمسلم عليه أن يعمل لكسب عيشه وعيش من يعول، وهذا فرض عين عليه، وحمل الدعوة لإقامة الخلافة فرض عين عليه (الآن). فأي هذين الفرضين يقدم على الآخر؟ والشرع يطلب من المسلم أن يقوم بكل الفروض، ولكن حين تتزاحم هذه الفروض بحيث إذا قام ببعضها لا يبقى لديه متسع للقيام بالفروض الأخرى. ففي مثل هذه الحال فإن الشرع نفسه هو الذي يقرر أيَّ الفروض يقدَّم وأيها يؤخِّر. فالمسألة شرعية وليست مسألة هوىً ومزاج. وأهل العلم والاجتهاد هم القديرون على فهم الأولويات)، وبهذا يتبين لنا أن المطالبة بالسرعة في إقامة الخلافة، وأنها مشروع «الآن» التي وضعت في العبارة السابقة بين قوسين تأكيدا لها، هذه المطالبة تؤكد على أنها مشروع هدم وتقويض يعتمد إستراتيجية تعطيل مؤسسات الدولة، وتفريغها من العاملين فيها أو إشغالهم بإقامة مشروع الخلافة بأقصى سرعة وأقصى طاقة، وهذا ما يعني الدخول في حالة الفوضى التي تمهد بدورها لمرحلة «إدارة التوحش» التي اعتبرتها الجماعات الإسلامية مرحلة ضرورية تسبق قيام الدولة الإسلامية.
وحين يتم التأكيد في ذلك على أن فهم تلك الأولويات التي ينبغي على المسلم القيام به أمر منوط يحدده «أهل العلم والاجتهاد»، فهذا يعني زحزحة فهم وتحديد الأوليات وصلاحية التوجيه بالعمل من أجل تحقيقها من فئات ومؤسسات تمثل الدولة لفئات ومؤسسات تمثل جماعات الإسلام الحركي، بحيث لا تصبح تلك الصلاحيات منوطة بقيادات الدولة وإدارييها، وإنما هي شأن منوط بمنظري ودعاة وزعماء الأحزاب الإسلامية، أو على نحو أدق الجماعات التي تعمل على توظيف الإسلام لتحقيق هدفها المتمثل في الاستيلاء على السلطة في بلدانها.
المطالبة بتحقيق ذلك الفعل بأقصى طاقة تبطن في داخلها فعلا آخر، يحقق للخطاب قدرته على الهيمنة، فالعبارة تظهر أمرا في الوقت الذي تبطن فيه أمرا آخر، أو على نحو أدق تنهى عن أمر آخر، يتمثل الأمر الآخر في النهي عن التروي والتفكير، الخطاب يفعل فعله حين يقوم بالحيلولة بين من يتوجه لهم والتفكير، يقوم بتعطيل تفكيرهم لتحويلهم إلى ذوات خطابية، التأكيد على أن إقامة الخلافة قد أصبحت أمرا محسوما، لا مجال لمناقشته أو إبداء الرأي فيه، وكل الذي يتوجب عليهم القيام به هو بذل أقصى ما يستطيعون لإقامة هذه الخلافة.
وما دام قد تقرر للخطاب تقرير أن إقامة الخلافة فرض عين بما قدمه في عنوان المقال وما بسط القول فيه في فقرته الأولى، فليس من عليه بعد ذلك إلا التذكير بالعبادات وما يتنزل القيام به منزلة الوجوب الذي لا يؤذن للمسلم التباطؤ في القيام به ليقيس عليها أمر الخلافة، (وأما العمل لإقامة الخلافة بأقصى سرعة، فإن هذا أيضا قطعي الثبوت قطعي الدلالة، ذلك أن الأحكام الشرعية التي أنزلها الله تصبح مطلوبة التنفيذ منذ تبليغها، وحين نزل حكم تحويل القبلة من بيت المقدس إلى المسجد الحرام تحوّل المصلون حين بلغهم الأمر فوراً وهم في الصلاة. فالأصل في تنفيذ الأحكام أنه على الفور وليس على التراخي إلا إذا دل الدليل على ذلك، فحين يقول الله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ} أو يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ} أو يقول رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكراً فليغيره»، فكل هذا مطلوب فورا. وكذلك النصوص التي جاءت متعلقة بعمل الدولة من إقامة الحدود، والقضاء بين الناس، وحمل الدعوة للعالم بالجهاد، وحماية الثغور، وتنفيذ أحكام الشرع على الرعية كلها مطلوبة فورا. أضف إلى ذلك أن المسلمين لا يجوز أن يظلوا فوق ثلاثة أيام بدون خليفة يطبق الشرع. والرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول: «ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية»، ولذلك ليس هناك من عذر لمن يقول مثلا: (أنا سأعمل لإقامة الدولة الإسلامية ولكن ليس الآن بل بعد أن أتخرج من الجامعة). أو يقول: (بعد إنهاء المشروع الذي أنا فيه) أو ما شاكل ذلك. لأن العمل عند الاستطاعة واجب فوراً، وتركه هو معصية).
ويكشف ذلك القياس وتلك الاستدلالات التي يتم استرفادها من أحكام قطعية الثبوت عن مخاتلات الخطاب، أو مكره، حسب تعبير الدكتور عبدالله الخطيب عند حديثي معه حول هذه المسألة، فهو قبل أن يتيح لمتلقيه التفكير فيما قطع به من اعتبار إقامة الخلافة فرض عين يقفز بمتلقيه إلى ما يترتب على ذلك من القيام بذلك الفرض على نحو ما يفعل مع بقية الفروض التي يسلم بواجبه في القيام بها.
وكما أن مشروع إقامة الخلافة في جوهره مشروع تقويض لأنظمة الحكم القائمة، فإن اعتبارها فرض عين يتوجب على جميع المسلمين القيام به يعني في جوهره تعطيل أي عمل آخر عداها، وهذا لا يعني تجييش جميع «الأمة» لإقامتها، وإنما يعني تعطيل كافة الأعمال التي ينهض بها المسلمون كذلك، بما فيها الدراسة وطلب العلم، يفاضل المقال بين الأولويات مؤكدا: (حين نقول بأن المسلم يجب عليه الآن وجوبا عينيا أن يعمل لإقامة الدولة الإسلامية بأقصى طاقته فهذا يعني أن عليه أن يترك كثيرا من الأعمال المباحة وكثيرا من الأعمال المندوبة إذا كانت تشغله عن القيام بهذه الفريضة. فالمسلم عليه أن يعمل لكسب عيشه وعيش من يعول، وهذا فرض عين عليه، وحمل الدعوة لإقامة الخلافة فرض عين عليه (الآن). فأي هذين الفرضين يقدم على الآخر؟ والشرع يطلب من المسلم أن يقوم بكل الفروض، ولكن حين تتزاحم هذه الفروض بحيث إذا قام ببعضها لا يبقى لديه متسع للقيام بالفروض الأخرى. ففي مثل هذه الحال فإن الشرع نفسه هو الذي يقرر أيَّ الفروض يقدَّم وأيها يؤخِّر. فالمسألة شرعية وليست مسألة هوىً ومزاج. وأهل العلم والاجتهاد هم القديرون على فهم الأولويات)، وبهذا يتبين لنا أن المطالبة بالسرعة في إقامة الخلافة، وأنها مشروع «الآن» التي وضعت في العبارة السابقة بين قوسين تأكيدا لها، هذه المطالبة تؤكد على أنها مشروع هدم وتقويض يعتمد إستراتيجية تعطيل مؤسسات الدولة، وتفريغها من العاملين فيها أو إشغالهم بإقامة مشروع الخلافة بأقصى سرعة وأقصى طاقة، وهذا ما يعني الدخول في حالة الفوضى التي تمهد بدورها لمرحلة «إدارة التوحش» التي اعتبرتها الجماعات الإسلامية مرحلة ضرورية تسبق قيام الدولة الإسلامية.
وحين يتم التأكيد في ذلك على أن فهم تلك الأولويات التي ينبغي على المسلم القيام به أمر منوط يحدده «أهل العلم والاجتهاد»، فهذا يعني زحزحة فهم وتحديد الأوليات وصلاحية التوجيه بالعمل من أجل تحقيقها من فئات ومؤسسات تمثل الدولة لفئات ومؤسسات تمثل جماعات الإسلام الحركي، بحيث لا تصبح تلك الصلاحيات منوطة بقيادات الدولة وإدارييها، وإنما هي شأن منوط بمنظري ودعاة وزعماء الأحزاب الإسلامية، أو على نحو أدق الجماعات التي تعمل على توظيف الإسلام لتحقيق هدفها المتمثل في الاستيلاء على السلطة في بلدانها.