إذا كان ثمة ما نحتاج إليه حين نقرأ أي خطاب من الخطابات المتشددة، وعلى رأسها خطاب الصحوة، فهو ألا نقع فيما وقع فيه منظروها حين مارسوا دور المحقق في محاكم التفتيش..
تساءل برنارد جارده ذات ندوة عما إذا كان «برناردو قي» زميلا له، ولرفاقه الذين كان يتحدث إليهم في المهنة، ثم لم يلبث أن اتخذ من هذا التساؤل عنوانا لورقته التي دون فيها مداخلته في ذلك الحوار. وإذا كنا نعرف أن «برناردو قي» الذي ورد ذكره في مداخلة جارده، التي ترجمها الدكتور عبدالله الخطيب إلى العربية، كان كبير المحققين وإمامهم في محاكم التفتيش التي كانت تأخذ بخناق من يتهمون بالهرطقة يكون بإمكاننا التحقق من أحد طرفي المعادلة، بينما يبقى الطرف الآخر متواريا وراء ما يمكن أن يحيل إليه الضمير «نا» في سؤال جارده: «هل برناردو قي زميل لنا»، ولا سبيل لنا إلى ذلك إلا إذا عرفنا المهنة التي يحيل إليها جارده، وإذا كان ثمة ضرب من الزمالة في تلك المهنة يجمع بينه -هو وزملاؤه- وبين برنارد جي.
وإذا ما اعتمدنا معرفتنا بالسيد جارده والجماعة التي ينتمي إليها وحلقة الدرس التي قدم فيها هذه المداخلة التي ترجمها من الفرنسية الدكتور عبدالله الخطيب، إذا ما اعتمدنا ذلك سهل علينا أن نعرف أن الطرف المقابل للسيد «برناردو قي» المحقق المنتمي إلى محاكم التفتيش إنما هو تلك الجماعة المشتغلة بتحليل الخطاب، وبذلك تتحرر المسألة على النحو الآتي: هل عملية تحليل الخطاب تشبه عملية التحقيق الجنائي؟ وهل استنطاق النصوص التي تشكل الجوانب المعلنة من الخطاب لمعرفة عما هو مقموع أو مسكوت عنه تماثل الاستدلال بما يرصد من أقوال وأفعال المشتبه بهم في محاكم التفتيش للتأكد مما يخفونه ويتسترون عليه من زندقة وهرطقة؟
وإذا كان ذلك كذلك لم يكن لنا بد من أن نحمل تساؤل السيد جارده على محمل التقرير، ذلك أن عمل «برناردو قي» وأدواته في التحليل وأسلوبه في التحقيق ودليله الإرشادي إليه ليست ببعيدة في ظاهرها عن عمل وأدوات وأسلوب من يقوم بتحليل الخطاب وتفكيكه، من أجل اكتشاف ما هو غير معلن فيه.
في الخطاب كما في القضايا الجنائية ظاهر وباطن، ظاهر مقبول يخفي باطنا قد لا يحظى بالقبول، وإن حظي بالقبول فإنه عندئذ يزعزع ما يحاول الخطاب تكريسه، وما يسعى إلى فرض هيمنته، وما يمكّنه من أن يكون خطابا فاعلا ومؤثرا.
لنأخذ على سبيل المثال الخطاب الصحوي المتشدد والمتعصب الذي ووجهت به الحداثة منذ منتصف الثمانينات الميلادية في القرن الماضي، وهو خطاب يبدو في ظاهره خطابا منافحا عن مجموعة من القيم التي لا يتسرب الشك إلى أهميتها وضرورة الذود عنها، كان الخطاب الذي واجه الحداثة خطابا ينافح عن الدين تارة وعن اللغة العربية تارة ثانية، ولا نعدم جوانب من هذا الخطاب يبدو فيها خطابا وطنيا يحذر من هؤلاء الحداثيين الذين كان يرى أن لهم علاقات مشبوهة بجهات تتآمر على الوطن والدين، ولم يكن اتهام الحداثيين آنذاك ووصفهم بأنهم «زوار السفارات» غير مظهر من مظاهر التشكيك في الوطنية والدين معا.
كانت تجارب الحداثة آنذاك، تنظيرا وإبداعا، تتخذ من المنابر الرسمية، ممثلة في الأندية الأدبية وجمعيات الثقافة والفنون، وكذلك من الصحافة، منابر لها، ولم يكن فيما ينشر ما يمكن أن يكون مسًّا بالدين أو نيلاً من اللغة العربية، فضلا عن أن يكون فيه ما يمكن أن يمس الأمن الوطني، غير أن هواجس الرافضين للحداثة والمتشددين في مقاومتها نظرت إلى ما ينشر على أنه ظاهر لا بد له من باطن تصدق عليه ظنونهم وأوهامهم، بل حملوا ما وجدوا فيه غموضا لم يستطيعوا فك مغاليقه على أن ثمة ما هو مخبأ فيه مما يخشى قائله من أن يصرّح به.
في سبيل ذلك راح المقاومون للحداثة يمارسون عملا يتطابق مع عمل «برناردو قي» كبير المفتشين في محاكم التفتيش، غير أنه ليس ببعيد عن عمل من يمارس تحليل الخطاب لكي يكشف عن باطن له يخالف ظاهره، ولعل هذا التشابه بين عمل المحقق ومحلل الخطاب هو الذي يمكن فهمه من تساؤل جارده لو حمل هذا التساؤل على محمل التقرير.
غير أن طيفا من الشك فيما كدنا نطمئن إليه من تشابه عمل المحقق في القضايا الجنائية وعمل محلل الخطاب، لا يلبث أن يحملنا على التساؤل عما إذا كان بإمكاننا أن نعتبر السيد «برناردو جي» وهو المحقق المنتمي لمحاكم التفتيش، والذي يقارب التحقيق مع المتهم باعتباره مجرما وغايته أن ينتزع منه اعترافا بجرمه الذي هو مطمئن إلى أنه ارتكبه قبل بدء التحقيق معه، هل بإمكاننا أن نعتبره مماثلا للمحلّل المحايد للخطاب؟ المحلل الذي يسعى جهده أن يقارب الخطاب بعد أن يتجرد من أي حكم مسبق عليه، المحقق الذي يحرص على أن يترك للخطاب أن يفصح عما هو مسكوت عنه فيه؟ هل السيد «برناردو قي» كبير المفتشين، وأولئك الذين فتشوا عما يخبئه خطاب الحداثة، مثيل لهذا المحلل المحايد للخطاب أم أنه مثيل للمحلل المؤدلج الذي لا يرى فيما يحلله من خطابات غير ما يريد أن يراه فيها، ولا يتوخى منها أن تقول غير ما يريد لها أن تقول؟
وإذا لم يكن السيد برناردو قي شبيها بمحلل الخطاب النزيه المحايد كان لنا أن نقرأ السؤال الذي عنون به جارده ورقته على غير النحو الذي قرأناه به من قبل، فلا يصبح سؤالا تقريريا وإنما هو سؤال استنكاري يحمل رسالة تحذيرية لأولئك الذين كان يتحدث إليهم، رسالة تحذرهم من الوقوع في فخ الأيديولوجيا، فينتهي أمرهم إلى أمر ذلك المحقق الذي يريد أن ينتزع من المتهم اعترافا يؤكد صدق ظنه به وشكه فيه، ولعل ما يعزز ذلك تلك الصورة المروعة والمنفرة لمحاكم التفتيش التي أراد جارده أن يستحضرها في مقام الذم للمحقق غير النزيه والمحلل غير المحايد.
وإذا كان ثمة ما نحتاج إليه حين نقرأ أي خطاب من الخطابات المتشددة، وعلى رأسها خطاب الصحوة، فهو ألا نقع فيما وقع فيه منظروها حين مارسوا دور المحقق في محاكم التفتيش وتطابق عملهم مع ما كان يقوم به «بيرناردو قي»، فما يجب علينا هو أن نكون محايدين في كشفنا لذلك الخطاب الذي هيمن علينا سنوات طويلة مهما كان الحياد صعبا، خاصة على من تضرروا من ذلك الخطاب وكانوا من ضحاياه.
إن الواجب المعرفي والأخلاقي يفرض علينا الالتزام بالحياد والتمسك بآليات تحليل الخطاب، لا لكي لا نصبح زملاء لبرناردو قي فحسب، وإنما لأن هذه الآليات العلمية وحدها هي الكفيلة بفضح ما كان يتخفى وراء الخطاب الصحوي المتشدد، ويشكل الباطن المناقض لما كان ينادي به منظروه.
تساءل برنارد جارده ذات ندوة عما إذا كان «برناردو قي» زميلا له، ولرفاقه الذين كان يتحدث إليهم في المهنة، ثم لم يلبث أن اتخذ من هذا التساؤل عنوانا لورقته التي دون فيها مداخلته في ذلك الحوار. وإذا كنا نعرف أن «برناردو قي» الذي ورد ذكره في مداخلة جارده، التي ترجمها الدكتور عبدالله الخطيب إلى العربية، كان كبير المحققين وإمامهم في محاكم التفتيش التي كانت تأخذ بخناق من يتهمون بالهرطقة يكون بإمكاننا التحقق من أحد طرفي المعادلة، بينما يبقى الطرف الآخر متواريا وراء ما يمكن أن يحيل إليه الضمير «نا» في سؤال جارده: «هل برناردو قي زميل لنا»، ولا سبيل لنا إلى ذلك إلا إذا عرفنا المهنة التي يحيل إليها جارده، وإذا كان ثمة ضرب من الزمالة في تلك المهنة يجمع بينه -هو وزملاؤه- وبين برنارد جي.
وإذا ما اعتمدنا معرفتنا بالسيد جارده والجماعة التي ينتمي إليها وحلقة الدرس التي قدم فيها هذه المداخلة التي ترجمها من الفرنسية الدكتور عبدالله الخطيب، إذا ما اعتمدنا ذلك سهل علينا أن نعرف أن الطرف المقابل للسيد «برناردو قي» المحقق المنتمي إلى محاكم التفتيش إنما هو تلك الجماعة المشتغلة بتحليل الخطاب، وبذلك تتحرر المسألة على النحو الآتي: هل عملية تحليل الخطاب تشبه عملية التحقيق الجنائي؟ وهل استنطاق النصوص التي تشكل الجوانب المعلنة من الخطاب لمعرفة عما هو مقموع أو مسكوت عنه تماثل الاستدلال بما يرصد من أقوال وأفعال المشتبه بهم في محاكم التفتيش للتأكد مما يخفونه ويتسترون عليه من زندقة وهرطقة؟
وإذا كان ذلك كذلك لم يكن لنا بد من أن نحمل تساؤل السيد جارده على محمل التقرير، ذلك أن عمل «برناردو قي» وأدواته في التحليل وأسلوبه في التحقيق ودليله الإرشادي إليه ليست ببعيدة في ظاهرها عن عمل وأدوات وأسلوب من يقوم بتحليل الخطاب وتفكيكه، من أجل اكتشاف ما هو غير معلن فيه.
في الخطاب كما في القضايا الجنائية ظاهر وباطن، ظاهر مقبول يخفي باطنا قد لا يحظى بالقبول، وإن حظي بالقبول فإنه عندئذ يزعزع ما يحاول الخطاب تكريسه، وما يسعى إلى فرض هيمنته، وما يمكّنه من أن يكون خطابا فاعلا ومؤثرا.
لنأخذ على سبيل المثال الخطاب الصحوي المتشدد والمتعصب الذي ووجهت به الحداثة منذ منتصف الثمانينات الميلادية في القرن الماضي، وهو خطاب يبدو في ظاهره خطابا منافحا عن مجموعة من القيم التي لا يتسرب الشك إلى أهميتها وضرورة الذود عنها، كان الخطاب الذي واجه الحداثة خطابا ينافح عن الدين تارة وعن اللغة العربية تارة ثانية، ولا نعدم جوانب من هذا الخطاب يبدو فيها خطابا وطنيا يحذر من هؤلاء الحداثيين الذين كان يرى أن لهم علاقات مشبوهة بجهات تتآمر على الوطن والدين، ولم يكن اتهام الحداثيين آنذاك ووصفهم بأنهم «زوار السفارات» غير مظهر من مظاهر التشكيك في الوطنية والدين معا.
كانت تجارب الحداثة آنذاك، تنظيرا وإبداعا، تتخذ من المنابر الرسمية، ممثلة في الأندية الأدبية وجمعيات الثقافة والفنون، وكذلك من الصحافة، منابر لها، ولم يكن فيما ينشر ما يمكن أن يكون مسًّا بالدين أو نيلاً من اللغة العربية، فضلا عن أن يكون فيه ما يمكن أن يمس الأمن الوطني، غير أن هواجس الرافضين للحداثة والمتشددين في مقاومتها نظرت إلى ما ينشر على أنه ظاهر لا بد له من باطن تصدق عليه ظنونهم وأوهامهم، بل حملوا ما وجدوا فيه غموضا لم يستطيعوا فك مغاليقه على أن ثمة ما هو مخبأ فيه مما يخشى قائله من أن يصرّح به.
في سبيل ذلك راح المقاومون للحداثة يمارسون عملا يتطابق مع عمل «برناردو قي» كبير المفتشين في محاكم التفتيش، غير أنه ليس ببعيد عن عمل من يمارس تحليل الخطاب لكي يكشف عن باطن له يخالف ظاهره، ولعل هذا التشابه بين عمل المحقق ومحلل الخطاب هو الذي يمكن فهمه من تساؤل جارده لو حمل هذا التساؤل على محمل التقرير.
غير أن طيفا من الشك فيما كدنا نطمئن إليه من تشابه عمل المحقق في القضايا الجنائية وعمل محلل الخطاب، لا يلبث أن يحملنا على التساؤل عما إذا كان بإمكاننا أن نعتبر السيد «برناردو جي» وهو المحقق المنتمي لمحاكم التفتيش، والذي يقارب التحقيق مع المتهم باعتباره مجرما وغايته أن ينتزع منه اعترافا بجرمه الذي هو مطمئن إلى أنه ارتكبه قبل بدء التحقيق معه، هل بإمكاننا أن نعتبره مماثلا للمحلّل المحايد للخطاب؟ المحلل الذي يسعى جهده أن يقارب الخطاب بعد أن يتجرد من أي حكم مسبق عليه، المحقق الذي يحرص على أن يترك للخطاب أن يفصح عما هو مسكوت عنه فيه؟ هل السيد «برناردو قي» كبير المفتشين، وأولئك الذين فتشوا عما يخبئه خطاب الحداثة، مثيل لهذا المحلل المحايد للخطاب أم أنه مثيل للمحلل المؤدلج الذي لا يرى فيما يحلله من خطابات غير ما يريد أن يراه فيها، ولا يتوخى منها أن تقول غير ما يريد لها أن تقول؟
وإذا لم يكن السيد برناردو قي شبيها بمحلل الخطاب النزيه المحايد كان لنا أن نقرأ السؤال الذي عنون به جارده ورقته على غير النحو الذي قرأناه به من قبل، فلا يصبح سؤالا تقريريا وإنما هو سؤال استنكاري يحمل رسالة تحذيرية لأولئك الذين كان يتحدث إليهم، رسالة تحذرهم من الوقوع في فخ الأيديولوجيا، فينتهي أمرهم إلى أمر ذلك المحقق الذي يريد أن ينتزع من المتهم اعترافا يؤكد صدق ظنه به وشكه فيه، ولعل ما يعزز ذلك تلك الصورة المروعة والمنفرة لمحاكم التفتيش التي أراد جارده أن يستحضرها في مقام الذم للمحقق غير النزيه والمحلل غير المحايد.
وإذا كان ثمة ما نحتاج إليه حين نقرأ أي خطاب من الخطابات المتشددة، وعلى رأسها خطاب الصحوة، فهو ألا نقع فيما وقع فيه منظروها حين مارسوا دور المحقق في محاكم التفتيش وتطابق عملهم مع ما كان يقوم به «بيرناردو قي»، فما يجب علينا هو أن نكون محايدين في كشفنا لذلك الخطاب الذي هيمن علينا سنوات طويلة مهما كان الحياد صعبا، خاصة على من تضرروا من ذلك الخطاب وكانوا من ضحاياه.
إن الواجب المعرفي والأخلاقي يفرض علينا الالتزام بالحياد والتمسك بآليات تحليل الخطاب، لا لكي لا نصبح زملاء لبرناردو قي فحسب، وإنما لأن هذه الآليات العلمية وحدها هي الكفيلة بفضح ما كان يتخفى وراء الخطاب الصحوي المتشدد، ويشكل الباطن المناقض لما كان ينادي به منظروه.