(1)
قررت أن أكتب هذا النثار، ولو كان صادما بعنف لكثير من القناعات والرموز في مشهدنا الثقافي (الذي تعتبر الرواية ونقدها أهم تجلياته، بحسب حجم الاهتمام داخليا وخارجيا، وبحسب كثافة الإنتاج، والكم الهائل من اللقاءات والفعاليات حول ذلك).
وليعلم القارئ -تأكيدا- بأن غايتي الوحيدة ممارسة الصدق مع نفسي ومع ثقافة بلادي، تلمسا لحقائق جلية غابت أو (غيبت)عن الأذهان طويلا، وحان الوقت لظهورها!
(2)
المسألة تمس الحضور الحقيقي الباهت لثقافتنا أمام الآخر عربيا وعالميا في العقد الأخير من الزمن. وإذا ارتهنا لذلك زمنا آخر، فلن يكون لدينا ثقافة أدبية (حقيقية) !
أول أسباب الخلل والضعف في المنظومة الثقافية -كما أزعم- هو الارتهان لأسماء متكررة دائما، في معظم فعالياتنا الثقافية داخليا وخارجيا، باعتبار أن تلك الأسماء ما زالت قادرة على النهوض بثقافتنا !
وبالتالي فإن استمرار ذلك الخلل الفاضح سيفضي إلى مزيد من الإصدارات والندوات وبقية الفعاليات (التي لا تسمن ولا تغني من جهل)، كما أنه سيقود الآخرين لأن يديروا رؤوسهم عنا تماما، ولن يبقى لنا إلا الآخرون (الذين معنا) مستمرئين مجاملة مزيفة لغايات مبتذلة! ولا شك أن قدر الثقافة أن تنقي نفسها بنفسها بعد كل مرحلة تاريخية زاخرة بالعديد وبكثير من الفعاليات ، وعند ذلك سنصطدم حين نصحو صباحا بانحسار الماء عن أرض ستظهر للعيون سوءاتها من اليباس والخواء !
قال تعالى: «فأما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض».
(3)
دعونا نقارب مشهدنا الثقافي من خلال مكونيه الرئيسين الفاعلين في الوعي الجمعي.
(الرواية والنقد)، ولنبدأ بالرواية:
سعدنا منذ العقد الأخير من التسعينات الميلادية وإلى أواخر العقد الأول من الألفية بحالة من الإنتاج الروائي المكثف، تماهيا مع ما تشهده الرواية في العالم من حضور واهتمام وقدرة فاعلة على تسجيل مأزق الإنسان مع أفكاره ومجتمعه، وتصديه لقوى الهيمنة المحيطة به، فظهرت للوجود روايات ، كانت تتلمس بجد حمى الرواية الحقيقية، تكاد تقع فيه حينا، وتبتعد أحيانا، وفي كل الحالات كان الأمل في تلك الأعمال قويا ومبهجا في إنتاج أعمال مستقبلية، يمكن أن توضع بفخر في الرف الفاخر الذي تستقر فيه روايات رجاء عالم وحيدة بلا مؤنس وصديق!
ولكن الذي حدث بعد ذلك أن كتاب الرواية أخذتهم غواية النشر، بعيدا عن الرغبة الجادة في إنتاج أعمال متطورة، تبرز في مكوناتها قيم الفن الروائي الخالص، ولا شك أن كتاب تلك الفترة كانوا بمنأى عن قراءة ومتابعة الروايات الناضجة في الآداب الأخرى، لتصدر روايات تلك المرحلة (بسيطة) ساذجة ، لا تتناسب مع (تعقيد) الرواية وزخم عوالمها الداخلية والخارجية ، ترتهن إلى اتجاهات غابرة ، كالرواية الرومانسية ورواية الشخصية ورواية الحدث التي لا تعدو إلا أن تكون
(حكاية) تقليدية متسقة الزمن نمطية الشخصيات، ليس أكثر من ذلك!
(4)
وإذا أردنا التدليل على تلك النماذج، فليكن من خلال الإنتاج الروائي للأبرز حضورا وإنتاجا وهو (عبده خال).
لا شك أن خال يعتبر من (أهم) الذين نهضوا بالرواية المحلية، هو ولد ونشأ ليكون روائيا بالفطرة، وقد كتب روايات مقنعة كثيرا، ولجت بإصراره وتعبه إلى حمى الرواية بالفعل. لكنه لم يستطع أن يستقر في تلك الحمى خلال فترة ضعف الإنتاج المحلي، والتي زعمت أنها تمتد خلال (العشر) سنوات الأخيرة -ما يختص بعبده منها: (الروايات: منذ لوعة الغاوية 2011م إلى الصهريج 2019م)- فضلا عن أن يغور في أعماقه السحيقة، وذلك لعدة أسباب قبلية يمكن (تجميع خيوطها) لقراءة العلاقة الجديدة لشخصية عبده مع فن الرواية، فربما كان خلال تلك الفترة مهووسا بالنشر منشغلا عن الاشتغال المؤرق على قيم الرواية وفنياتها وتعقيداتها، مهملا الاطلاع لنماذج الرواية الحديثة المغايرة، مبتهجا بحفلات الإعجاب والاحتفاء به (شخصيا)، فاستقر في وعيه أنه رمز الرواية المحلية وعرابها، وأن الكل ينتظر أي رواية له بفارغ الصبر، وأن كل ما سيكتبه سيكون ذا قيمة عالية، خاصة أن البيئة المحلية تفتقر للنقاد الصادقين (الحقيقيين) الذين كان من الممكن أن يفضي وجودهم إلى تعريف القراء لدينا بالنماذج الرفيعة من الرواية، وتقنياتها المعقدة، فيعرف القارئ عندئذ المستوى الحقيقي لروايات عبده (مؤخرا)!
ولذلك، ظلت رواياته خلال تلك الفترة الزمنية تكرر نفسها من خلال الاهتمام دائما بالمتن الحكائي المهيمن على حساب (المبنى) الحكائي (الذي هو العمل الفني الحقيقي، وغاية تحقق القيمة السردية التقنية/ الفنية للمسرود، والذي سبق أن أشار لها النقاد الروس وأقرانهم قبل ما يقارب المئة عام. وإلباسها مستعجلا عنصر حكاية بسيطة، حتى إن ذلك التكرار والتشابه يمتد إلى الشخصيات (في روايات عبده يهيمن صوت الشخصية الرئيسة على بقية الأصوات «مبخوت في لوعة الغاوية 2011، فيصل في صدفة ليل 2016م، وحي في أنفس، وأخيرا إبراهيم عاشور في الصهريج!»)، وتلك طريقة سبق استهلاكها في الفن الروائي من خلال تجارب متقدمة الزمن كثيرا، كما أن هذه الشخصيات الرئيسة في أعمال عبده، لا يشعر بها القارئ تتخلق من الداخل على امتداد فصول العمل، بل كثيرا ما تظهر جاهزة واضحة المعالم تماما، لا يظهر منها غالبا إلا (خارجها) وما تفعله من (أحداث)، مع أن الحدث الرئيس للشخصية الروائية يجب أن يحدث بدوي هائل في (الداخل)، في الوعي وفي اللاوعي من الأفكار والمشاعر. لا يبدو على شخصيات عبده أي تناقض بين عالمها الواعي وعالمها اللاوعي (ولتوضيح ذلك المشهد الروائي، يتجلى ديستوفسكي عظيما في الفوز بذلك المشهد بحرفية ومهارة فنية، فهو يختار شخصيات مغايرة لا تتكرر كثيرا في السياق الروائي، ولا في السياق الواقعي، يجعل هذا الروائي العظيم الشخصيات المتنوعة المتحاورة تتخلق أمام القارئ، بل إنه يجعل من كل شخصية شخصيتين اثنتين)! وبالتأكيد فإن ذلك لم يكن ليكون، لولا الاستغراق المؤرق العميق في شخصيات العمل، والقدرة الهادئة على تفكيك الوعي الشعوري واللاوعي للشخصية إلى وحدات متناهية الصغر، وإعادة تجميعها في اللحظة التي ينتظر منها القيام بأعمال واقعية أمام الشخصيات الأخرى في الرواية، كما أننا لا نكاد نرى أي اشتغال تقني على مستوى صيغ السرد وزمنه وفضائه، فليس ثمة (حوارية/ بوليفونية) تشمل عناصر السرد، وتضفي عليه ثراء، ينسجم مع ثراء الحياة وتعقيداتها وأسرارها. فالقارئ لا يسمع في روايات عبده سوى صوت وحيد، هو الذي يختفي خلفه الكاتب فينكشف للقراء مباشرة (تطغى في رواياته الأخيرة صيغة الراوي العليم، مع تضمين رواية الصهريج صيغة ضمير المتكلم لشخصية «وحي»).ولعل هذا الغياب الكبير لأطياف الحوارية خلال العقد الزمني الأخير، يفسر لنا ارتهان عبده -بشكل عام- لـ(واحدية) فقيرة في عناصر السرد، فرواياته تجري في لحظة روائية واحدة، لم تنفتح أبدا على لحظات أخرى غنية بالمغايرة والتجاوز للأعمال السابقة في كل مرة (ما الذي فعله فنيا وتقنيا في رواية الصهريج ليتجاوز ويختلف بها عن رواية أنفس مثلا..؟): الاعتماد على عنصر الحكاية وتمثلاتها في الحدث، حتى إنه يعتمد صناعة حدث صاخب في بداية أعماله تماما (كما نتذكر حدث الفتاة الهاربة من قبرها في «فسوق: فإنا نجد تماما حدث الطفلة فتون وهي تخرج من بيت مبخوت في حالة مريبة في «لوعة الغاوية»، وحدث المقهى الذي دارت حوله جلبة كشف بيع لحم الحمير للزبائن في «صدفة ليل»، وحدث الفتاة التي خرجت عارية للناس في «أنفس»، ثم حدث الجنين الذي قطعته أنياب كلاب الحي في «الصهريج»).. طريقة البدايات تتكرر في كل مرة. ويمتد ذلك التحديد والتسطيح إلى الفضاء الروائي (المحدود): فروايات عبده خلال العقد الأخير تجري في أماكن واحدة (جدة.. القرية التهامية.. وإن ابتعدت عن ذلك، فإما إلى مكة المكرمة أو المدينة المنورة بشكل سريع).
وفي مقابل فضاء الرواية المحدد جدا نجد اختزالا كبيرا في صيغة الزمن كذلك، فالروايات كلها تجري في تاريخ العهد السعودي القديم (من عهد الملك سعود إلى عهد الملك فيصل رحمهما الله).
(5)
في النثار القادم بإذن الله، سنقارب الأسباب التي هوت بخال بعيدا عن الآفاق الروائية الفاتنة، بعد أن كتب أعمالا مقنعة كثيرا قبل زمن الجفاف هذا..
قررت أن أكتب هذا النثار، ولو كان صادما بعنف لكثير من القناعات والرموز في مشهدنا الثقافي (الذي تعتبر الرواية ونقدها أهم تجلياته، بحسب حجم الاهتمام داخليا وخارجيا، وبحسب كثافة الإنتاج، والكم الهائل من اللقاءات والفعاليات حول ذلك).
وليعلم القارئ -تأكيدا- بأن غايتي الوحيدة ممارسة الصدق مع نفسي ومع ثقافة بلادي، تلمسا لحقائق جلية غابت أو (غيبت)عن الأذهان طويلا، وحان الوقت لظهورها!
(2)
المسألة تمس الحضور الحقيقي الباهت لثقافتنا أمام الآخر عربيا وعالميا في العقد الأخير من الزمن. وإذا ارتهنا لذلك زمنا آخر، فلن يكون لدينا ثقافة أدبية (حقيقية) !
أول أسباب الخلل والضعف في المنظومة الثقافية -كما أزعم- هو الارتهان لأسماء متكررة دائما، في معظم فعالياتنا الثقافية داخليا وخارجيا، باعتبار أن تلك الأسماء ما زالت قادرة على النهوض بثقافتنا !
وبالتالي فإن استمرار ذلك الخلل الفاضح سيفضي إلى مزيد من الإصدارات والندوات وبقية الفعاليات (التي لا تسمن ولا تغني من جهل)، كما أنه سيقود الآخرين لأن يديروا رؤوسهم عنا تماما، ولن يبقى لنا إلا الآخرون (الذين معنا) مستمرئين مجاملة مزيفة لغايات مبتذلة! ولا شك أن قدر الثقافة أن تنقي نفسها بنفسها بعد كل مرحلة تاريخية زاخرة بالعديد وبكثير من الفعاليات ، وعند ذلك سنصطدم حين نصحو صباحا بانحسار الماء عن أرض ستظهر للعيون سوءاتها من اليباس والخواء !
قال تعالى: «فأما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض».
(3)
دعونا نقارب مشهدنا الثقافي من خلال مكونيه الرئيسين الفاعلين في الوعي الجمعي.
(الرواية والنقد)، ولنبدأ بالرواية:
سعدنا منذ العقد الأخير من التسعينات الميلادية وإلى أواخر العقد الأول من الألفية بحالة من الإنتاج الروائي المكثف، تماهيا مع ما تشهده الرواية في العالم من حضور واهتمام وقدرة فاعلة على تسجيل مأزق الإنسان مع أفكاره ومجتمعه، وتصديه لقوى الهيمنة المحيطة به، فظهرت للوجود روايات ، كانت تتلمس بجد حمى الرواية الحقيقية، تكاد تقع فيه حينا، وتبتعد أحيانا، وفي كل الحالات كان الأمل في تلك الأعمال قويا ومبهجا في إنتاج أعمال مستقبلية، يمكن أن توضع بفخر في الرف الفاخر الذي تستقر فيه روايات رجاء عالم وحيدة بلا مؤنس وصديق!
ولكن الذي حدث بعد ذلك أن كتاب الرواية أخذتهم غواية النشر، بعيدا عن الرغبة الجادة في إنتاج أعمال متطورة، تبرز في مكوناتها قيم الفن الروائي الخالص، ولا شك أن كتاب تلك الفترة كانوا بمنأى عن قراءة ومتابعة الروايات الناضجة في الآداب الأخرى، لتصدر روايات تلك المرحلة (بسيطة) ساذجة ، لا تتناسب مع (تعقيد) الرواية وزخم عوالمها الداخلية والخارجية ، ترتهن إلى اتجاهات غابرة ، كالرواية الرومانسية ورواية الشخصية ورواية الحدث التي لا تعدو إلا أن تكون
(حكاية) تقليدية متسقة الزمن نمطية الشخصيات، ليس أكثر من ذلك!
(4)
وإذا أردنا التدليل على تلك النماذج، فليكن من خلال الإنتاج الروائي للأبرز حضورا وإنتاجا وهو (عبده خال).
لا شك أن خال يعتبر من (أهم) الذين نهضوا بالرواية المحلية، هو ولد ونشأ ليكون روائيا بالفطرة، وقد كتب روايات مقنعة كثيرا، ولجت بإصراره وتعبه إلى حمى الرواية بالفعل. لكنه لم يستطع أن يستقر في تلك الحمى خلال فترة ضعف الإنتاج المحلي، والتي زعمت أنها تمتد خلال (العشر) سنوات الأخيرة -ما يختص بعبده منها: (الروايات: منذ لوعة الغاوية 2011م إلى الصهريج 2019م)- فضلا عن أن يغور في أعماقه السحيقة، وذلك لعدة أسباب قبلية يمكن (تجميع خيوطها) لقراءة العلاقة الجديدة لشخصية عبده مع فن الرواية، فربما كان خلال تلك الفترة مهووسا بالنشر منشغلا عن الاشتغال المؤرق على قيم الرواية وفنياتها وتعقيداتها، مهملا الاطلاع لنماذج الرواية الحديثة المغايرة، مبتهجا بحفلات الإعجاب والاحتفاء به (شخصيا)، فاستقر في وعيه أنه رمز الرواية المحلية وعرابها، وأن الكل ينتظر أي رواية له بفارغ الصبر، وأن كل ما سيكتبه سيكون ذا قيمة عالية، خاصة أن البيئة المحلية تفتقر للنقاد الصادقين (الحقيقيين) الذين كان من الممكن أن يفضي وجودهم إلى تعريف القراء لدينا بالنماذج الرفيعة من الرواية، وتقنياتها المعقدة، فيعرف القارئ عندئذ المستوى الحقيقي لروايات عبده (مؤخرا)!
ولذلك، ظلت رواياته خلال تلك الفترة الزمنية تكرر نفسها من خلال الاهتمام دائما بالمتن الحكائي المهيمن على حساب (المبنى) الحكائي (الذي هو العمل الفني الحقيقي، وغاية تحقق القيمة السردية التقنية/ الفنية للمسرود، والذي سبق أن أشار لها النقاد الروس وأقرانهم قبل ما يقارب المئة عام. وإلباسها مستعجلا عنصر حكاية بسيطة، حتى إن ذلك التكرار والتشابه يمتد إلى الشخصيات (في روايات عبده يهيمن صوت الشخصية الرئيسة على بقية الأصوات «مبخوت في لوعة الغاوية 2011، فيصل في صدفة ليل 2016م، وحي في أنفس، وأخيرا إبراهيم عاشور في الصهريج!»)، وتلك طريقة سبق استهلاكها في الفن الروائي من خلال تجارب متقدمة الزمن كثيرا، كما أن هذه الشخصيات الرئيسة في أعمال عبده، لا يشعر بها القارئ تتخلق من الداخل على امتداد فصول العمل، بل كثيرا ما تظهر جاهزة واضحة المعالم تماما، لا يظهر منها غالبا إلا (خارجها) وما تفعله من (أحداث)، مع أن الحدث الرئيس للشخصية الروائية يجب أن يحدث بدوي هائل في (الداخل)، في الوعي وفي اللاوعي من الأفكار والمشاعر. لا يبدو على شخصيات عبده أي تناقض بين عالمها الواعي وعالمها اللاوعي (ولتوضيح ذلك المشهد الروائي، يتجلى ديستوفسكي عظيما في الفوز بذلك المشهد بحرفية ومهارة فنية، فهو يختار شخصيات مغايرة لا تتكرر كثيرا في السياق الروائي، ولا في السياق الواقعي، يجعل هذا الروائي العظيم الشخصيات المتنوعة المتحاورة تتخلق أمام القارئ، بل إنه يجعل من كل شخصية شخصيتين اثنتين)! وبالتأكيد فإن ذلك لم يكن ليكون، لولا الاستغراق المؤرق العميق في شخصيات العمل، والقدرة الهادئة على تفكيك الوعي الشعوري واللاوعي للشخصية إلى وحدات متناهية الصغر، وإعادة تجميعها في اللحظة التي ينتظر منها القيام بأعمال واقعية أمام الشخصيات الأخرى في الرواية، كما أننا لا نكاد نرى أي اشتغال تقني على مستوى صيغ السرد وزمنه وفضائه، فليس ثمة (حوارية/ بوليفونية) تشمل عناصر السرد، وتضفي عليه ثراء، ينسجم مع ثراء الحياة وتعقيداتها وأسرارها. فالقارئ لا يسمع في روايات عبده سوى صوت وحيد، هو الذي يختفي خلفه الكاتب فينكشف للقراء مباشرة (تطغى في رواياته الأخيرة صيغة الراوي العليم، مع تضمين رواية الصهريج صيغة ضمير المتكلم لشخصية «وحي»).ولعل هذا الغياب الكبير لأطياف الحوارية خلال العقد الزمني الأخير، يفسر لنا ارتهان عبده -بشكل عام- لـ(واحدية) فقيرة في عناصر السرد، فرواياته تجري في لحظة روائية واحدة، لم تنفتح أبدا على لحظات أخرى غنية بالمغايرة والتجاوز للأعمال السابقة في كل مرة (ما الذي فعله فنيا وتقنيا في رواية الصهريج ليتجاوز ويختلف بها عن رواية أنفس مثلا..؟): الاعتماد على عنصر الحكاية وتمثلاتها في الحدث، حتى إنه يعتمد صناعة حدث صاخب في بداية أعماله تماما (كما نتذكر حدث الفتاة الهاربة من قبرها في «فسوق: فإنا نجد تماما حدث الطفلة فتون وهي تخرج من بيت مبخوت في حالة مريبة في «لوعة الغاوية»، وحدث المقهى الذي دارت حوله جلبة كشف بيع لحم الحمير للزبائن في «صدفة ليل»، وحدث الفتاة التي خرجت عارية للناس في «أنفس»، ثم حدث الجنين الذي قطعته أنياب كلاب الحي في «الصهريج»).. طريقة البدايات تتكرر في كل مرة. ويمتد ذلك التحديد والتسطيح إلى الفضاء الروائي (المحدود): فروايات عبده خلال العقد الأخير تجري في أماكن واحدة (جدة.. القرية التهامية.. وإن ابتعدت عن ذلك، فإما إلى مكة المكرمة أو المدينة المنورة بشكل سريع).
وفي مقابل فضاء الرواية المحدد جدا نجد اختزالا كبيرا في صيغة الزمن كذلك، فالروايات كلها تجري في تاريخ العهد السعودي القديم (من عهد الملك سعود إلى عهد الملك فيصل رحمهما الله).
(5)
في النثار القادم بإذن الله، سنقارب الأسباب التي هوت بخال بعيدا عن الآفاق الروائية الفاتنة، بعد أن كتب أعمالا مقنعة كثيرا قبل زمن الجفاف هذا..