أمس أو غداً أو اليوم، سوف يبدأ سباق.. الطبخ والنفخ والبلع في سبعة أعشار البيوت الكويتية خصوصاً، والخليجية عموماً، مع حلول شهر الصوم الكريم! لدي صديق أطلقنا عليه في الديوانية لقب.. أبو..درزن، فهو يذهب للسوبر ماركت قبل قدوم رمضان بأسبوع ولكي يشتري درزنا من أكياس الطحين، ودرزنا.. من أكياس الشعيرية، ودرزنا.. من المعكرونة، وكذلك العدد ذاته من علب اللقيمات، والهريس والجريش.. عندنا في الكويت لونه أحمر، وعندكم في السعودية لونه أبيض ليش؟ لا أدري! المهم أن الصديق يصرف في شهر رمضان ما يعادل راتبه التقاعدي لثلاثة أضعاف، مع أنهم – في المنزل – ثلاثة أشخاص فقط، هو وزوجته وابنتهما التي فاتها قطار الزواج منذ أن فشل آخر منتخب كويتي لكرة القدم في العودة إلى البلاد مع كأس دورة الخليج! هي سمينة قليلاً، فقط ضع ما تشاء من الأصفار على يمين الرقم 1 لتحصل على وزنها الحقيقي، لذلك هرب منها الخطاب – وكذلك الخطابات– لأنها تقبل فيعتقدون أنها.. أدبرت، أو تدبر، فيرون أنها مقبلة وينتظرونها بينما هي تبتعد عنهم شيئاً.. فشيئاً، ورويداً رويداً!! نسأله لماذا هذا الإسراف في الشراء المبالغ فيه لمؤونة شهر الصوم؟ فيقول إنه اعتاد على رؤية والده – رحمه الله رحمة واسعة – وهو يجلب مشتريات رمضان عبر شاحنات من نوع فورد – أحمر موديل 1954! فنسأله ثانية وكم عدد غرف – وسكان منزلكم – في ذلك الزمان؟ فيقول.. 27 غرفة وخمسة أعمام، وثلاثة أخوال، وأربع عمات وثلاث بنات عم وأربعة من الخدم!!
.. علينا – في هذا الشهر – أن نقسم المعدة إلى أربعة أقسام – وليس ثلاثة كما تعلمناها أيام المرحلة الابتدائية – فالربع الأول للماء، والثاني للغذاء، والثالث للحلويات والرابع للمسلسلات التلفزيونية والمسابقات والرسائل.. النصية!
***
كل عام وأنتم بخير، والحمد لله حمداً كثيراً، لأنه أطال عمري وأعماركم حتى نشهد صيام شهر رمضان جديد، ومنحنا فرصة أخرى لزيادة رصيد حسنات كل منا من أجل يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون! شهر رمضان لا يمنحني – فقط – راحة لمعدتي من جدور الظهيرة أو لصدري من تدخين السيجار الكوبي.. والاستيقاظ من النوم في السادسة صباحاً وحتى الواحدة من فجر اليوم التالي، بل يعطيني الفرصة لاستخدام استيكه أو محاية أمسح بها كل ما علق بقلبي من عتب تجاه آخرين، فأطلب لهم الهداية والمغفرة والرحمة من لدن الباري عز وجل، حتى يعود القلب إلى حالته الأولى – عند الولادة – صافيا مثل عين الحمامة، نقياً مثل مياه الشلال وأبيض مثل خام الدشداشة.. البوبلين! الصدق هو سمة من سمات هذا الشهر الكريم ولقول سيد المرسلين عليه الصلاة والسلام.. من لم يدع قول الزور، فلا حاجة لأن يدع طعامه وشرابه. الصدق هو سمة مطلوبة لكل فصول السنة، لكنه مطلوب أكثر في شهر الصوم، حتى ولو كان مع زوجتك النسرة التي عليك أن تتعامل معها وكأنها حمامة بر ضلت طريقها فحطت أمام بيتك! الماء والنار.. عدوان لدودان، وكذلك الحش والصيام فاترك حكاية ذكر الغير بالسوء، ولا تنس أنك قد تكون ممتلئا به، وقد يأتي الأوان على الحش بك فيتحول أجر صيامهم لك مثلما يتحول أجر صيامك لهم.. إذا ما فعلت مثلهم! وحلوياتك ذكر الرحمن، وشراب بيذانك إطالة الصلاة، ومتعتك.. قراءة القرآن، لأن العيوش واللقيمات والبيذان هي مواد تختفي من الجسم بنهاية اليوم، لكن الاستغفار وذكر الرحمن وإطالة الصلاة وقراءة القرآن.. تبقى معك – ليس إلى آخر العمر فقط – بل تكون مصابيحك التي تضيء لك ظلام القبر حتى قيام الساعة!
***
قد أكتشف لكم أنني أخشى أن شهر رمضان سوف ينقرض ويختفي ويتلاشى خلال الثلاثين أو الأربعين أو حتى الخمسين سنة.. القادمة! لو سأل كل واحد منا نفسه هذا السؤال: هل هذا هو رمضان الذي عرفناه حين كنا في سن السابعة أو الثامنة أو العاشرة.. ونحن اليوم على أبواب الخمسين أو الستين أو السبعين؟! أشعر – وأرجو أن أكون مخطئاً – أن رمضاننا المبروك هذا في طريقه – شوية – شوية لأن يتحول إلى شوية طقوس ليصبح مثل الكريسماس أو الهلاوين أو رأس السنة الميلادية، إذ حتى مشايخ الدين جرفهم التيار، وصرنا نشاهدهم يتقاتلون على أشكال برامجهم التلفزيونية وديكوراتها وأماكن تصويرها، والاستعاضة بالمؤثرات الصوتية وحتى أناشيد الفيديو – كليب وغيرها، وكل ذلك بعين واحدة، بينما ترقب العين الأخرى.. كشف الحساب في البنك، أو يتجه شعاعها مباشرة إلى رقم المبلغ المتفق عليه في العقد مع شركة التفاحة في السلسلة النواحة، أو شركة دوام الحال من المحال.. وأنت رايح... إلخ. على أي حال أتمنى – مرة أخرى – أن أكون مخطئاً ويبقى لنا رمضاننا الصافي، النقي، الناصع، المريح، المشبع، الذي عرفناه في صغرنا ونريده معنا – هو ذاته – في أواخر أيام حياتنا!! و..كل عام وأنتم بخير وعساكم من عواده!!