جميلة جدا، وأكثر من رائعة، فكرة العدادات الإلكترونية الكبيرة، التي بدأت بوضعها البلديات على المشاريع الإنشائية، لأنها تعكس قدرا كبيرا من الشفافية في التعامل، والوضوح والدقة في الخطط الموضوعة بعد الدراسة، كما أنها تحترم عقل المواطن بدرجة كبيرة كدليل على حالة الرقي والتمدن التي وصلنا لها. حيث إنه المتضرر الوحيد من إغلاق الطرق وصلف التحويلات ورعونة المطبات، تحت وطأة مشروع لايعلم على وجه الحقيقة متى سيكتمل، منهيا بذلك معاناته في الوصول إلى مدرسته أو مقر عمله، أو حتى بيته. فهو عن طريق هذه العدادات الماثلة أمامه في كل غدو ورواح تحصي معه كم مر من الأيام على معاناته المؤلمة وكم بقي بينه ونهاية النفق الذي سيرى فيه النور والجمال وفرحة الإنجاز. فهو ـ أي المواطن ـ يعلل النفس بالآمال يرقبها / ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل.
وحدث في مدينتي أن بدأ أحد المشاريع الإنشائية التابعة للأمانة، فوقف العداد الإلكتروني مزهوا يحمل 120 يوما من العمل، بعدها سيكون هذا المشروع جاهزا، والشهادة لله أنني لم أر إخلاصا ودقة وتفانيا في العمل كإخلاص هذا العداد فكل يوم عندما أمر بجانبه ذاهبة إلى مقر عملي، أرفع رأسي له بكل احترام، حتى لو اضطررت إلى فتح نافذة مركبتي، وأخرج رأسي لأنظر إلى شموخه المهيب، فإذا بي أجده قد قام بعمله فجرا على أكمل وجه وأحصى يوما آخر من الإنجاز.
ومرور آخر وثالث ورابع والعداد يحصي، ونقترب من النهاية، وكلما تذمر أحدنا من سوء وضع الشارع رد عليه الآخر بعد أن يرمق العداد بطرف مهيب.. هانت.. كلها خمسة أيام. لكن المفاجأة (يا سادة يا كرام) أنه في اليوم الخامس، وبدون سابق إنذار مات العداد واقفا، كما يموت الشجر، وتوقف عن النبض. أصبنا جميعا بالحزن، لابأس فالعداد أنهى عمله قبل أن يتوقف وغدا يرى مشروعنا النور، لكن المشروع على ما يبدو كان قد سبق العداد إلى الموت، وبعد التسعين يوما، تسعون أخرى، ولا زال الموت مخيما على ذلك المكان، ولا زال الناس هناك يعانون، واختفت عبارات المواساة والدعم بينهم، فقد أغلق العداد وغاب الدليل. وكلما مررت، وجدت عاملا أو اثنين يتسكعان بجانب العداد، يدخنان ويتحادثان بهمس، حتى لايستيقظ النائمون.