الشيخ عبدالعزيز بن باز -رحمه الله- مدرسة في علمه وتعليمه وصبره وتعامله مع الموافقين والمخالفين، سئل عن سر تقدير الموافقين والمخالفين له فقال: «لا أعلم شيئا، إلا أني -بحمد الله- منذ عرفت الحق في شبابي وأنا أدعو إليه، وأصبر على الأذى في ذلك، ولا أحابي أحدا، ولا أداهن في ذلك أحدا، أقول الحق وأصبر على الأذى، فإن قُبِلَ فالحمد لله، وإن لم يقبل فالحمد لله، هذا هو الطريق الذي رسمته لنفسي مشافهةً ومكاتبةً، قَبِله من قَبِله وردَّه من ردَّه، فلا أعلم سببا إلا هذا السبب، أني أقول الحق بحمد الله، حسب طاقتي، وأنشره قولا وعملا، ولا أعتب ولا أؤذي إذا قدرت، بل أدعو له بالتوفيق والهداية».
ولما كرر عليه أحد طلابه سر محبة الناس قال: «ما أعلم في قلبي غِلاً على أحد من المسلمين».
هذا العالم الراسخ ابن باز كان جبلاً راسخاً، لا تهزّه العواصف مهما كانت شدتها، وكان مع نصحه وإرشاده، ونهيه عن المنكرات، طودا شامخا مع دولته، لم ينزع يدا من طاعة، ولا يسمح لأحد بالافتيات والتمرد، أو التقليل من شأن القيادة، ولما استعان الملك فهد -رحمه الله- بالقوات الأجنبية لصد عدوان الصائل في حرب الخليج الثانية، أثار الحركيون والانتهازيون الشغب والإثارة مستدلين بأدلة لا تدل على ما أرادوا، فانبرى لهم ابن باز بعلم وعدل، وأزهق بالحق باطلهم، وكانت وفود الحركيين تأتيه زرافات ووحداناً لتُغيِّر موقفه، فكان يستقبل الجميع، ويرد عليهم بالدليل، ويطلب منهم تعظيم النصوص الشرعية، ولزوم جماعة المسلمين وإمامهم، وترك العواطف وما تهوى الأنفس.
قال عنه غازي القصيبي، وكان بينه وبين الشيخ ابن باز عتاب لم يخل من حدة، ما يلي:
«إذا قيل»الشيخ«عرف الناس الرجل المقصود، ومن غير ابن باز يستحق ذلك اللقب، جاءه اللقب من الجموع، لم يحصل عليه من جامعة، ولم تنعم به هيئة، ولم يصدر بتحديده مرسوم. لي معه مواقف كلها تذكرة وعبر، كان الشيخ كبيرا، وكان كبيرا جدا، كان كبيرا بعلمه، وكان كبيرا جدا بتواضعه، كان الشيخ كريما، وكان كريما جدا، كان كريما بماله، وكان كريما جدا بنفسه، وكان الشيخ طيبا، وكان طيبا جدا. كان طيبا لا يخدع أحدا، وكان طيبا جدا، لا يغضب من أحد خدعه، كان بعض اجتهاداته موضع خلاف، أما نزاهته الفكرية فكانت محل إجماع قولا واحدا.
ذات يوم قرع الباب بمنزلي في حي»الروضة«بالرياض، وفتحت زوجتي الباب وجاءت، مذهولة، تخبرني أن الشيخ عند الباب يستأذن في الدخول، وذهلت بدوري!
كان البعض -غفر الله لنا ولهم- قد دقوا بين الشيخ وبيني»عطر منشم«، ونقلوا إليه ما نقلوا مشوها ومحرّفا وخارج سياقه، وكان بيني وبين الشيخ عتاب لم يخل من حدّة، وتحمل الشيخ الحدّة كما يتحمل الأب الصبور نزوات الابن المشاغب، وهُرعت أستقبل الشيخ رغم الحمّى التي كانت -وقتها- زائرة ثقيلة بلا حياء.
قال الشيخ: إنه سمع بمرضي وجاء يعودني، وتحدثنا طويلا، وقال عن عملي في وزارة الصحة ما يخجلني حتى بعد هذه السنين أن أردده، ودعا لي وخرج.
وذهبت -ذات مساء- أزوره، وكان يجيب عن أسئلة الرجال والنساء كعادته بعد صلاة المغرب، عبر هواتف أربعة لا تنقطع عن الرنين، ثم خلا لي وجهه، وتحدثنا ما شاء الله أن نتحدث، وقبل أن أخرج قلت مترددا: يا سماحة الشيخ! هل تسمح لي بإبداء نصيحة شخصية؟ وابتسم وقال: تفضل! تفضل!
قلت: هذه الفتاوى الفورية على الهاتف، ثم أحجمت عن الكلام، تقديرا واحتراما، واتسعت ابتسامة الشيخ، وقال:»تكلم! تكلم!«قلت: هذه الفتاوى الفورية على الهاتف ألا يحسن أن تؤجل حتى تُكتب وتُدرس؟ وقال الشيخ:»جزاك الله خيرا!
أنا لا أفتي إلا في المعلوم من الدين بالضرورة، أو في الأمور البسيطة التي يحتاجها عامة الناس في حياتهم اليومية، أما ما يحتاج إلى بحث وتمحيص فليس مكانه الهاتف، وشكرت له سعة صدره وخرجت.
ومرت الأيام، والأعوام، نلتقي بين الحين الطويل والحين، وكان كل مرة يحيّيني تحية الوالد الشفوق رغم العطر المسموم الذي لم يكفّ تجار الوقيعة عن تسويقه، وجاء احتلال الكويت وخاف من خاف، وسعى للغنيمة من سعى، وطمع في الزعامة من طمع، وانتهز الفرص من انتهز، وانتظر الناس «كلمة الشيخ»، ووقف الشيخ وقال ما يعتقد أنه الحق، ولم يبال بردود الفعل العنيفة، وبدأ الشيخ الضئيل عملاقا في عباءته الصغيرة، والزوابع تدور حوله مزمجرة، هادرة، شرسة، كل زوبعة تحاول أن تجرف الشيخ معها، وكان الشيخ الضئيل صامدا كالجبل الأشم، جاءت الزوابع وذهبت، وثارت العواصف وهدأت. وبرنامج الشيخ لا يتغير؛ الصلاة والدروس في المسجد.. وتلاميذ بلا عدد.. الدوام في المكتب.. ومراجعون بلا حساب.. وضيوف الغداء.. وضيوف العشاء.. والباب المفتوح أمام الجميع، واللسان العفّ حتى مع المخالفين الذين لا يعرفون عفة اللسان، والهاتف لا ينقطع عن الرنين، والشيخ يجيب ويجيب، ويقضي كل لحظة من لحظات الصحو معلماً أو متعلماً أو عابداً، يحمل هموم المسلمين في كل مكان، حتى ليكاد ينوء بها جسمه الضئيل لا يقول إلا ما يعتقد أنه الحق، ولا يرجو رضا أحد سوى الله، ومات الشيخ «رحمه الله».
ذهب بهدوء كما عاش ببساطة، وترك الجموع الواجمة تصلي على جنازة الرجل الذي لم يتأخر يوما عن الصلاة على جنازة مسلم معروفا كان أو مغمورا.
رحم الله الشيخ الضئيل العملاق عبدالعزيز بن عبدالله بن باز، وأسكنه بعد سجن الدنيا الضيّق جنة عرضها السماوات والأرض. أحسبه -ولا أزكي على الله أحدا- أحبَّ لقاء الله، وأرجو -وأستغفر الله أن أقول ما ليس لي به علم- إن الله أحبَّ لقاءه».
ولما كرر عليه أحد طلابه سر محبة الناس قال: «ما أعلم في قلبي غِلاً على أحد من المسلمين».
هذا العالم الراسخ ابن باز كان جبلاً راسخاً، لا تهزّه العواصف مهما كانت شدتها، وكان مع نصحه وإرشاده، ونهيه عن المنكرات، طودا شامخا مع دولته، لم ينزع يدا من طاعة، ولا يسمح لأحد بالافتيات والتمرد، أو التقليل من شأن القيادة، ولما استعان الملك فهد -رحمه الله- بالقوات الأجنبية لصد عدوان الصائل في حرب الخليج الثانية، أثار الحركيون والانتهازيون الشغب والإثارة مستدلين بأدلة لا تدل على ما أرادوا، فانبرى لهم ابن باز بعلم وعدل، وأزهق بالحق باطلهم، وكانت وفود الحركيين تأتيه زرافات ووحداناً لتُغيِّر موقفه، فكان يستقبل الجميع، ويرد عليهم بالدليل، ويطلب منهم تعظيم النصوص الشرعية، ولزوم جماعة المسلمين وإمامهم، وترك العواطف وما تهوى الأنفس.
قال عنه غازي القصيبي، وكان بينه وبين الشيخ ابن باز عتاب لم يخل من حدة، ما يلي:
«إذا قيل»الشيخ«عرف الناس الرجل المقصود، ومن غير ابن باز يستحق ذلك اللقب، جاءه اللقب من الجموع، لم يحصل عليه من جامعة، ولم تنعم به هيئة، ولم يصدر بتحديده مرسوم. لي معه مواقف كلها تذكرة وعبر، كان الشيخ كبيرا، وكان كبيرا جدا، كان كبيرا بعلمه، وكان كبيرا جدا بتواضعه، كان الشيخ كريما، وكان كريما جدا، كان كريما بماله، وكان كريما جدا بنفسه، وكان الشيخ طيبا، وكان طيبا جدا. كان طيبا لا يخدع أحدا، وكان طيبا جدا، لا يغضب من أحد خدعه، كان بعض اجتهاداته موضع خلاف، أما نزاهته الفكرية فكانت محل إجماع قولا واحدا.
ذات يوم قرع الباب بمنزلي في حي»الروضة«بالرياض، وفتحت زوجتي الباب وجاءت، مذهولة، تخبرني أن الشيخ عند الباب يستأذن في الدخول، وذهلت بدوري!
كان البعض -غفر الله لنا ولهم- قد دقوا بين الشيخ وبيني»عطر منشم«، ونقلوا إليه ما نقلوا مشوها ومحرّفا وخارج سياقه، وكان بيني وبين الشيخ عتاب لم يخل من حدّة، وتحمل الشيخ الحدّة كما يتحمل الأب الصبور نزوات الابن المشاغب، وهُرعت أستقبل الشيخ رغم الحمّى التي كانت -وقتها- زائرة ثقيلة بلا حياء.
قال الشيخ: إنه سمع بمرضي وجاء يعودني، وتحدثنا طويلا، وقال عن عملي في وزارة الصحة ما يخجلني حتى بعد هذه السنين أن أردده، ودعا لي وخرج.
وذهبت -ذات مساء- أزوره، وكان يجيب عن أسئلة الرجال والنساء كعادته بعد صلاة المغرب، عبر هواتف أربعة لا تنقطع عن الرنين، ثم خلا لي وجهه، وتحدثنا ما شاء الله أن نتحدث، وقبل أن أخرج قلت مترددا: يا سماحة الشيخ! هل تسمح لي بإبداء نصيحة شخصية؟ وابتسم وقال: تفضل! تفضل!
قلت: هذه الفتاوى الفورية على الهاتف، ثم أحجمت عن الكلام، تقديرا واحتراما، واتسعت ابتسامة الشيخ، وقال:»تكلم! تكلم!«قلت: هذه الفتاوى الفورية على الهاتف ألا يحسن أن تؤجل حتى تُكتب وتُدرس؟ وقال الشيخ:»جزاك الله خيرا!
أنا لا أفتي إلا في المعلوم من الدين بالضرورة، أو في الأمور البسيطة التي يحتاجها عامة الناس في حياتهم اليومية، أما ما يحتاج إلى بحث وتمحيص فليس مكانه الهاتف، وشكرت له سعة صدره وخرجت.
ومرت الأيام، والأعوام، نلتقي بين الحين الطويل والحين، وكان كل مرة يحيّيني تحية الوالد الشفوق رغم العطر المسموم الذي لم يكفّ تجار الوقيعة عن تسويقه، وجاء احتلال الكويت وخاف من خاف، وسعى للغنيمة من سعى، وطمع في الزعامة من طمع، وانتهز الفرص من انتهز، وانتظر الناس «كلمة الشيخ»، ووقف الشيخ وقال ما يعتقد أنه الحق، ولم يبال بردود الفعل العنيفة، وبدأ الشيخ الضئيل عملاقا في عباءته الصغيرة، والزوابع تدور حوله مزمجرة، هادرة، شرسة، كل زوبعة تحاول أن تجرف الشيخ معها، وكان الشيخ الضئيل صامدا كالجبل الأشم، جاءت الزوابع وذهبت، وثارت العواصف وهدأت. وبرنامج الشيخ لا يتغير؛ الصلاة والدروس في المسجد.. وتلاميذ بلا عدد.. الدوام في المكتب.. ومراجعون بلا حساب.. وضيوف الغداء.. وضيوف العشاء.. والباب المفتوح أمام الجميع، واللسان العفّ حتى مع المخالفين الذين لا يعرفون عفة اللسان، والهاتف لا ينقطع عن الرنين، والشيخ يجيب ويجيب، ويقضي كل لحظة من لحظات الصحو معلماً أو متعلماً أو عابداً، يحمل هموم المسلمين في كل مكان، حتى ليكاد ينوء بها جسمه الضئيل لا يقول إلا ما يعتقد أنه الحق، ولا يرجو رضا أحد سوى الله، ومات الشيخ «رحمه الله».
ذهب بهدوء كما عاش ببساطة، وترك الجموع الواجمة تصلي على جنازة الرجل الذي لم يتأخر يوما عن الصلاة على جنازة مسلم معروفا كان أو مغمورا.
رحم الله الشيخ الضئيل العملاق عبدالعزيز بن عبدالله بن باز، وأسكنه بعد سجن الدنيا الضيّق جنة عرضها السماوات والأرض. أحسبه -ولا أزكي على الله أحدا- أحبَّ لقاء الله، وأرجو -وأستغفر الله أن أقول ما ليس لي به علم- إن الله أحبَّ لقاءه».