الثورة التي تشهدها اللغة العربية والمتمثلة في عدد المجالس والمراكز المهتمة بها، وعدد المؤتمرات التي تقام من أجلها والدراسات والبحوث التي تناقش مشاكلها أمر يدعو للتفاؤل

في الأسبوع ما قبل الأخير من شهر مارس من هذا العام 2012، عقدت ثلاثة مؤتمرات دولية للغة العربية وفي نفس الأسبوع: الأول في المدينة المنورة في المملكة العربية السعودية بعنوان المؤتمر الدولي الأول للغة العربية ومواكبة العصر، والثاني في القاهرة في جمهورية مصر العربية بعنوان مستقبل اللغة العربية، والثالث في بيروت بجمهورية لبنان بعنوان اللغة العربية في خطر والجميع شركاء في حمايتها.
اللغة العربية لم ولن تكون في خطر، وإنما أبناؤها الذين تدنوا عن مستواها ويحاولون الارتقاء إلى درجتها.. وفي رأيي أن هذا مؤشر جيد يدل على صحوة عربية تضع في أولويات اهتماماتها لغتها. وأرى أيضاً أن ذلك ارتقاء، وأهم عامل فيه هو وجود محتوى يتناسب مع هذه اللغة العظيمة ويدخل الأمة العربية معترك الإنجازات البشرية النوعية من الاختراعات والابتكارات الناتجة عن دراسات وبحوث علمية تفضي إلى إنجازات متميزة تناقش ما يشهده العالم وتدخل مع العالم في تلك المنافسة لتضع لها موطئ قدم في صفة المتقدم، وهي مؤهلة لذلك ولديها كل الإمكانات من العقول البشرية إلى الدعم إلى الأدوات التي يمكن تسخيرها في تحقيق تلك الأهداف. وإذا علمنا أن ما يقارب 98% مما يكتب في الشبكة العنكبوتية (الإنترنت) يكتب باللغة الإنجليزية وبحثنا أسباب ذلك وجدنا أن الولايات المتحدة الأميركية بالدرجة الأولى التي تتحدث اللغة الإنجليزية كلغة أساسية ورسمية، وبعدها بفارق كبير المملكة المتحدة التي تتحدث بنفس اللغة أساسية ورسمية أيضاً تتربعان على قائمة الدول المساهمة في الاختراعات والابتكارت وإنتاج المواد المتقدمة Advanced Materials .
هناك أساسيات يجب الاهتمام بها ونحن أهملناها فترة طويلة ويجب أن نعود بقوة للاهتمام بها.. وهنا مكمن الخطر. كما أن إهمالنا بلغ أننا قلما نجد من طلابنا من يستطيع أن يكتب طلب التحاقه بالوظيفة بعد تخرجه بلغة سليمة وصحيحة، ونرى بعض وزرائنا ومثقفينا من يلحن في اللغة حتى وهو يلقي خطابا رسمياً، ومراسلاتنا الحكومية وتواصلنا الإعلامي بكل أشكاله لا يخلو من السقطات اللغوية المقيتة، بل إن معظمه يستخدم اللهجات الدارجة.. وهذه مصائب كبيرة حلت بنا نحن وليس بلغتنا. أعرف أن التصحيح يجب أن يبدأ بالأساس، لأن البيت الذي لا أساس له ينهار بسرعة، لكنني أرى أيضاً أن لا وقت لدينا للانتظار لمعالجة الأساسيات التي تحدثت عنها وإهمال محتوى لغتنا الذي يجب أن يتضمن مخترعات وابتكارات ومواد متقدمة تحملها لغتنا إلى العالم الآخر بكل اقتدار وزهو وفخر. العالم لن يحترم لغتنا إلا إذا حملت إليه ما يقف له احتراماً وإجلالا. ويجب أن يسير هذان الهدفان جنباً إلى جنب، وفي نفس الوقت يجب على المنظمات والمجالس الدولية التي ترعى وتحتضن وتحاول معالجة اللغة العربية أن يكون هذان الهدفان أمام أنظارها وتسخير الدراسات وأوراق العمل في هذا الاتجاه، كما أن الاقتصار على إقامة محفل عالمي أو مؤتمر دولي للغة كل عام لا يكفي. لا بد من العمل على مدار العام، ولهذا لا بد أن تكون هذه المجالس وهذه المؤتمرات تحت سقف قوي يرعاها ويمدها بالدعم المستمر الذي يضمن هذا الاستمرار.. البعض يقول إذا دخلت هذه الفعاليات تحت سقف الدول فستنزلق في نمطية البيروقراطية، وقد يكون ذلك صحيحاً، إلا أن الصحيح أيضاً هو ألا تبقى هذه المجالس والفعاليات تحت رحمة التوسل وإلا فستبقى هزيلة البنية، عقيمة التفكير، ضعيفة الهدف، قليلة الإنتاج، متواضعة الإنجاز..
وإذا ما توفر لهذه الجهود ما تستحقه من دعم ورعاية يضمنان استمراريتها ويرتقيان بعملها ويجذبان اليها أفضل ما في الوطن العربي من طاقات وعقول، يجب بالمقابل ألا تغرق في التجريد بتبني أهداف لا يمكن تحقيقها، فالواقعية مطلوبة وعدم المغالاة في الأكاديمية مهم.. الكثير من الدراسات والبحوث التي يقوم بها أكاديميون لا يمكن تطبيقها على أرض الواقع..إنهم يُغرقون في التنظير، فإذا ما جئت إلى أرض الواقع وجدته بعيداً كل البعد عن النتائج التي وصلوا إليها. وأمر ثالث وهو السرعة الممكنة، فلا بطء مخل ولا سرعة مربكة، ولا نجعل المثل الشعبي: إما جرى وإلا انبطح ينطبق على خطى هذه المنظمات والمجالس والمراكز التي تهتم باللغة لا جريان ولا انبطاح.. السرعة الممكنة.
وخلاصة القول أن الثورة التي تشهدها اللغة العربية، والمتمثلة في عدد المجالس والمراكز المهتمة بها، وعدد المؤتمرات التي تقام من أجلها والدراسات والبحوث التي تناقش مشاكلها أمر يدعو للتفاؤل. لغتنا سامية باقية لكننا نحن من تخاذل للوصول إلى مستواها.. ومن هذا التخاذل والبعد عنها الظواهر التي نراها والمارسات التي ننتهجها وينتهجها أبناؤنا تجاهها إلى أن وصلنا إلى درجة أن أبناءنا يتحدثون العربية بلغة لاتينية في برامج التواصل ويكتبون الحروف بالأرقام.. وإعلامنا أغرق في استخدام اللهجات العامية.. وطلابنا لا يستطيعون التواصل الخطي بشكل سليم وواضح. هذا من جانب، ومن جانب آخر، محتوى لغتنا ضعيف ولابد أن تناقش مراكز اللغة العربية ومجالسها ومؤتمراتها وندواتها هذين الجانبين وتبحث أسباب الضعف فيهما.. تعالج مشاكل لغتنا الداخلية وتعالج في نفس الوقت الوصول بقوة إلى العالمية عن طريق محتوى يشرف الأمة ويشرف اللغة التي تنقله.
هذا عهد جديد لأمتنا العربية، ويجب أن تكون أهدافنا في خدمة لغتنا كبيرة، وستكون كذلك إذا تعاملت مع هاتين المشكلتين بنجاح واقتدار وسارت في تحقيقهما بالسرعة الممكنة، آخذة في الاعتبار أنه لا وقت لدينا للاستسلام للبيروقراطية التي تنتهج: ما لونها ما طعمها وكيف؟ ولماذا؟
لا وقت لكل ذلك..
إننا متفائلون مع هذا العصر الجديد أن تفيق أمتنا من غفوتها وأن تقوم بعد كبوتها، ومؤشرات الإفاقة والقيام ماثلة للعيان.
لغتنا أداة قوية.. هذه الأداة تحتاج لذراع قوي يحملها ويحسن استخدامها لتكون هذه الأداة فاعلة تحقق ما صنعت له.. وضعف الذراع لن يغير من من كنه وحقيقة تلك الأداة. العمل يجب أن ينصب على تقوية الذراع لتتألق الأداة وتكون فاعلة ومحققة للهدف.
اللهم كلل كل جهد مخلص بالنجاح وارزق أهله التوفيق وسداد الخطى.. اللهم آمين.