القلق مصدره الإحساس بأن انتشار العلم والتكنولوجيا يهدد الأوضاع الراسخة ويهدم أساليب الحياة المستقرة، وأن نظم القيم المتوارثة والمذاهب الفلسفية المتعارف عليها لم تكن مناسبة لظروف العصر الجديد

ذلك الارتباط بين المعرفة والقلق الدائم توارثته البشرية منذ أن تناول- آدم عليه السلام – تلك الثمرة المحرمة، فلم يكن ذلك سوى حب الإنسان للمعرفة والبحث في جميع مناحي الحياة عن سر كل ما هو مجهول، فتسبب له السعادة ولربما تسبب له الشقاء، ولذلك فطرت البشرية على حب المعرفة، وجعل الله سبحانه وتعالى المتعة سرا من أسرار الحصول عليها، فهي ضرب من ضروب الأنس الذي طرحة ابن خلدون في مقدمته، فالأنس الدافق يؤنس ثقافة العصر ومبدعيه وبالتالي يندمج الفرد في تلك البنية المجتمعية في إطار واحد إذا ما اعتبرنا النخبة هم علماء هذا الطرح ويحافظون على المسافة المثلى بينهم وبين جمهورهم من طالبي المعرفة، فإن تعالوا ابتعدوا وإن اقتربوا احترقوا، لهذا يبرز دور العلماء والانتليجنسيا في تحقيق تلك المهمة.
وإذا ولجنا إلى أغوار المعرفة - هذه الكلمة التي حيرت العلماء والباحثين عبر العصور- نجدها تأخذ مناحي عديدة، فلسفية وعلمية تجعلها جوهرية، تحمل في ثناياها خلاصة المجتمعات البشرية الآتية من عمق التاريخ في ديمومة بحثية لا تنتهي، ولذلك فالفلسفة تشغل حيزاً كبيرا من آراء العلماء والمفكرين ومنها ينبثق الفكر المجتمعي.
وتحت تأثير التقدم العلمي في حقل الفيزياء خاصة انحنى الخطاب المعرفي والثقافي نحو علم أبستمولوجي منذ القرن المنصرم، أي أنه أصبح خطابا حول أسس الخطاب العلمي نفسه، كما مع الفرنسي غاستون باشلار، فيشهد زماننا الحالي هجوما مركزا على المسلمات التي كانت ترتكز عليها المعرفة كبراءة العلم وسلطة العقل ومركزيته. ويكفي أن نذكر في هذا المضمار عمل الألماني يوجيني هاربر والفرنسيين ميشال فوكو و وجاك درايدا وهيليس ميلر، وبوب دي مان وجيفري هارتمن وهارولد بلوم ولويس جولدمان وبارت وغيرهم.. إن العلوم الإنسانية من اقتصاد وألسنة وتحليل نفس قد زعزعت الثقة بالصرح الإنساني، فلابد أن تكون المسافة بين المرسل والمتلقي مسافة غير بعيدة مع الحفاظ على وجود تلك المسافة، إذ إن وجود تلك المسافة يحفظ للعالم وقاره وهيبته فينهل منه جمهوره بثقة ومصداقية، وإن زادت هذه المسافة انصرفوا عنه، وإن اقترب أحرقوه، وهي ما أسميتها ثقافة الانسحاب، وما أكثر ما يتسم به يومنا هذا من ثقافة النزوح والانسحاب وينتهي الأمر للفوضى، والتطاول غير المسؤول على العلماء والقادة والمفكرين وكل القيم التي تتوارثها الأجيال- في جميع أنحاء العالم وليس في الوطن العربي فحسب. طوفان فكري من التمرد على القيم، وقد لعب التقدم التكنولوجي دورا كبيرا في هذا المضمار. يقول كتاب تاريخ البشرية الذي قامت عليه منظمة اليونسكو والصادر عن الهيئة العامة للكتاب في لغته العربية: كان تطبيق المعرفة في كثير من مجالات الحياة يتصل اتصالا وثيقا بأصداء الأفكار الخاصة بطبيعة المجتمع البشري ومكان الإنسان فيه كما يتصل بالقيم المتغيرة التي تعكس التغير الاجتماعي.
فالتقدم التكنولوجي الذي ساد مناحي الحياة لم يكن برئيا من هذا القلق وذلك الضجيج الممهور في بعض الأحيان بالتمرد، كما أن لهذا الأمر مثل ما عليه من هذا القلق المحموم بالصخب، يقول الكتاب: يمكن القول بوجه عام إن القرن العشرين كان عصر التفاؤل الكبير.، ولقد نشأ التفاؤل من الإحساس الجديد بما أتى به العلم والتكنولوجيا من إمكانات لم تكن تدور من قبل بخيال إنسان، تلك الإمكانات التي أتيحت لكثير من الناس بفضل البنيان المتغير للقوة والمؤسسات الاجتماعية. أما القلق فمصدره الإحساس بأن انتشار العلم والتكنولوجيا يهدد الأوضاع الراسخة ويهدم أساليب الحياة المستقرة، وأن نظم القيم المتوارثة والمذاهب الفلسفية المتعارف عليها لم تكن مناسبة لظروف العصر الجديد. وفي هذه السنوات لم يبق مجال من مجالات الحياة إلا وتعرض لسيل جارف، ولم يبق نظام تقليدي للفكر دون أن يواجه التحديات. إن هذا القلق عمل على وجود ذلك التناقض الوجداني بين فئات المجمتع ، فقد أحس الناس في طول العالم وعرضه أنهم في سفينة قد انقطعت أسبابها بالبر، وعليهم أن يقودوها – بغير خريطة- عبر بحار مجهولة، وكان هذا عند البعض بمثابة مغامرة كبرى لا تخلو من النشوة، وكان عند البعض الآخر خطرا يهدد بالويل الكبير. ولقد وجد الإنسان الحديث نفسه في موقف مليء بالتناقضات، وكلما زاد سيطرةً على بيئته، زاد شعورا بعجزه أمام القوى التي كان إطلاق بعضها من صنعه. وكلما زادت درايته بالعالم خارج نطاق بيئته المباشرة، قلت قدرته على التصرف المباشر إزاء كثير مما يؤثر في حياته اليومية. وكلما زادت المعرفة الجديدة من تقويضها لليقينيات السابقة، غيرت القوى الاجتماعية في النظم القديمة، وتزايد شعور الإنسان بالحاجة إلى مصدر من مصادر الأمن والطمأنينة يقوم عنده مقام المصادر التي فقدها
فللمعرفة مرارة كنشوتها.. يقول إبراهيم ناجي في إحدى قصائده:
كل شيء صار مراً في فمي... بعد أن أصبحت بالدنيا عليما
آه من يأخذ عمري كله... ويعيد الطفل والجهل القديما
هذا هو حال الإنسان المعاصر بما يحياه من متناقضات نتاج تقدم علمي وتقني مع مسافة غير مثلى بين النخبة، علماء هذا الطرح وبين العامة، مما عمل على خلخلة الفكر والوجدان الجمعي، ومن هنا يتأرج نتاج المعرفة في العصر الحديث بين اللذة المشوبة بالنشوة، وبين الألم المسبوغ بالشقاء الدائم.