من أين تأتي وسائل الإعلام بأخبار العلاقات الخليجية الأوروبية، والأزمة المفترضة فيها؟ ولماذا يتبرع بعض المعلقين بالحديث عن نقاط خلافية من نسج الخيال، أو من وحي التاريخ لا الحاضر؟
إذا كنت ممن يتابعون وسائل الإعلام لمعرفة أخبار العلاقات الخليجية الأوروبية فربما خرجت بانطباع أن تلك العلاقات في أزمة، بسبب تركيز الإعلام على نقاط ثانوية هي بالفعل محل خلاف بين الجانبين، دون إشارة للقضايا الرئيسة التي هي محل توافق بينهما، بل يتبرع بعض المعلقين بالحديث عن نقاط خلافية من نسج الخيال، أو من وحي التاريخ لا الحاضر.
والحق أن العلاقات بين الاتحاد الأوروبي ومجلس التعاون لم يسبق أن كانت أفضل حالاً مما هي عليه اليوم، فالاتحاد الأوروبي ما زال أكبر شريك تجاري وثقافي لدول مجلس التعاون، أما المواضيع التي تثار في الصحافة فهي إما ثانوية أو قضايا تم التعامل معها أو حلها منذ أمد بعيد، أو أنها تأتي في إطار تباين وجهات النظر الذي يحدث بين أقرب الحلفاء ولا يفسد للود قضية.
وتُظهر نتائج الاجتماع الوزاري المشترك العشرين لوزراء خارجية دول مجلس التعاون مع نظرائهم في الاتحاد الأوروبي، هذه الحقيقة بوضوح. فهذا الاجتماع السنوي الذي عُقد منتصفَ شهر يونيو في دوقية لوكسمبورغ، شارك فيه هذا العام وزراء خارجية وممثلون من 27 دولة أوروبية هي كامل عضوية الاتحاد الأوروبي، وست دول خليجية هي الدول الأعضاء في مجلس التعاون، بالإضافة إلى الأمانة العامة لمجلس التعاون والمفوضية الأوروبية.
وكان اجتماعاً تاريخياً تم خلاله، لأول مرة في تاريخ العلاقات بين المجموعتين، إقرار برنامج للتعاون المشترك يغطي فترة السنوات الثلاث القادمة (2010-2013م) ويتضمن آليات محددة للتعاون في نحو (15) مجالاً للتعاون، مثل:
- المجالات الاقتصادية والمالية والنقدية، ومكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.
- التجارة والاستثمار والصناعة وبراءات الاختراع.
- الطاقة، والبيئة والتغير المناخي، والنقل والاتصالات، والكهرباء والماء.
- التعليم العالي والبحث العلمي وتقنية المعلومات.
- الثقافة والسياحة والآثار.
وكان هذا البرنامج قد وُضع في صورته الأولية في فبراير من هذا العام خلال اجتماعات ماراثونية لأكثر من (170) خبيراً ومسؤولاً من الجانبين، ضمت ممثلين من جميع جهات الاختصاص (وزارات الخارجية، والمالية، والاقتصاد، والتجارة، والصناعة، والتجارة الخارجية، والبيئة، والشؤون المناخية، والطاقة، والبترول، والمياه، والكهرباء، والنقل والمواصلات، والاتصالات، والسياحة، والثقافة، والإعلام، والتعليم العالي، والعدل، بالإضافة إلى ممثلين من البنوك المركزية، والجامعات، ومراكز البحث العلمي وغيرها).
وليس أبلغ دليلاً على متانة هذه العلاقات والأهمية التي يعلقها الجانبان على إنجاحها من هذا التجمع الكبير من الخبراء في فبراير ثم الوزراء وكبار المسؤولين في يونيو، لوضع برنامج مزمن للتعاون، يحدد آليات دقيقة للتنفيذ والمتابعة والتقييم.
ولكن كل هذا لم يمنع بعض الصحفيين والمعلقين من الحديث عن الأزمة التي تمر بها العلاقات بين أوروبا والخليج، بسبب خلافات على قضايا ثانوية في مفاوضات التجارة الحرة، غافلين عن أن مفاوضات التجارة الحرة في حد ذاتها أمر تفصيلي ليس له أهمية كبيرة، لأن السوق الخليجية والسوق الأوروبية في مجملهما سوقان منفتحتان ليس فيهما قيود كثيرة، والرسوم الجمركية فيهما منخفضة أصلاً. وغافلين أيضا عن حقيقة أن الجانبين توصلا إلى اتفاق بشأن نحو 99% من المواضيع التي تتضمنها الاتفاقية، وما تبقى هي نقاط تفصيلية محدودة الأهمية والأثر.
ويُنشر في الصحافة عن خلافات جوهرية في القضايا السياسية والاقتصادية. والواقع أنه بالنسبة للشق السياسي المتعلق بمشروع الاتفاقية، ليس ثمة اختلافات جوهرية، لأن الجانبين قد توصلا منذ فترة إلى صياغات مناسبة لمعالجة هذه المواضيع، والخلاف نشأ بسبب رغبة الجانب الأوروبي في إضافة نصوص تعطي الحق لأي طرف في اتخاذ تدابير تجارية في حالة الخلاف على مدى التزام الطرف الآخر بما اتُّفق عليه بشأن القضايا السياسية. في حين يرى الجانب الخليجي عدم الربط بين الموضوعين. ثمّ تمّ التوصل العام الماضي إلى اتفاق على نص يلبي اهتمامات الجانبين في هذا المجال.
أما فيما يتعلق بالشق الاقتصادي، فالخلاف هو على نقطة واحدة هي رغبة الجانب الأوروبي في وضع قيود على حق دول المجلس في فرض رسوم على صادراتها (وليس الصادرات الأوروبية كما يتردد في الصحافة) في حالة رأت ملاءمة ذلك. وهو موضوع نظري أكثر منه عملياً، لأنه من النادر أن تضع دولة رسوماً على صادراتها، ولهذا فإن ممارسة هذا الحق الذي تضمنه منظمة التجارة العالمية ستكون محدودة في أمثلة ضيقة.
وكما ترى فإن هذا الموضوع (النظري) هو الموضوع الوحيد المتبقي من الاتفاقية، وليس من المستبعد أن تتغلب العقول الحصيفة على هذه العقبة متى ما وضعتها في سياقها الصحيح.
فإذا كانت حقيقة العلاقات بين الاتحاد الأوروبي ودول مجلس التعاون على هذا النحو، فمن أين يأتي المرجفون بنظريات القطيعة والأزمة بينهما؟