مطلق الذيابي

الكلمة ابنة الثقافة ووليدها الحرف، الكلمة هي الراحلة الأمينة التي أوصلت الإنسان إلى المستوى الفكري الرفيع، وقبل الكلمة ماذا كان الإنسان؟.

كان الإنسان عاجزا عن إبلاغ شيء مما كان يختلج به قلبه وعقله، وأولا وأخيرا فالكلمة هي قيمة الإنسان ومبدأه وموقفه في الحياة، يتخذها الشرفاء في مكان الرفعة، ويتخذها غير الشرفاء في الموضع الوضيع، وإن كانوا يتخذونها وسيلة لتحقيق غرض والوصول بها لتحقيق غاية.

والكلمة أداة الرأي، وأداة الثقافة، وأداة التعبير، من الرجال من وصل بها إلى أسمى الدرجات، ومنهم من حقق بها أكرم الغايات، وثمة من كانت سببا في بلوغه موارد الهلاك، وقد قيل: مقتل الرجل بين فكيه، وبالمقابل فقد قتلت الكلمة صاحبها عند قوم لم يألفوا رؤية الحقيقة، وذهب شهيد الكلمة التي انبعثت من جوهر الحق، وارتضى ذلك الشهيد أن يذهب ضحية كلمته الشريفة التي أراد بها خدمة الحق ومحق الباطل، والتاريخ زاخر بأبناء هذا الطراز من الرجال الشرفاء، وبقدر ما أراده المبطلون في إخفاء أثر هذا الإنسان الذي ناصر الحق وآثر الكلمة كانت سيرته في الجماعة المؤمنة تنضح عطرا زكيا وتدفع أمثاله من الشرفاء لتضحيات كبيرة في سبيل المبدأ الحق.

والكلمة هي جوهرة الثقافة المشعة، وهدية الله لأصحاب العقل الإنساني الذين فتحوا بها عقولا كانت مظلمة بسواد الجهل، والكلمة أداة الأديب المتمكن والشاعر، وهي التي تقبع في طاقاته الهائلة، لتعبر عن أفكاره بأسلوب مدهش، ويكفي أن يقول الأديب كلمته لتأخذ طريقها إلى نفوس عشاق الأدب، تؤثر فيها تأثيرا يفوق كل قوة، والكلمة هي الكائن الحي الذي تتجدد حيويته في كل زمان، إنها كلمة أشرف الكتب على الإطلاق، والكلمة الصادقة تستمد قوتها على الدوام من نبع الحقيقة الخالد، وهذا النبع يرده بلهفة الظمآن المفكرون الذين يغوصون في أعماقه ليستخلصوا للناس أجمل ما في الكون من ألوان لا تخبو مع الزمن، ألا وهي المعاني الرائعة التي أصبحت زينة لهذا الكائن البشري، ليسعد بها القلب والإنسان والروح والوجدان، إن قوة الكلمة النابعة من الأعماق يمكن أن تبلغ كل إنسان في كل زمان ومكان، سمي كذلك لجودة شعره، وربما أرادوا بجودة الشعر هنا غلبة العنصر الموسيقي في ألفاظ شعره كان أصلح من غيره للغناء به، واستمر استقلال الشعراء عن المغنين في العصور الإسلامية، هؤلاء ينشدون وأولئك يغنون غير أن المغنين قد نبه ذكرهم وأصبحوا يجالسون الظاهرين والأمراء وينالون عندهم الحظوة والجاه، ويكفي أن نتصفح كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني لندرك مدى الفصل بين صنعة الشعر ونظمه على بحوره المختلفة وبين غنائه على أحد تلك الأصوات والألحان التي وصلت في عهد الرشيد إلى المئة.

ويعنينا هنا إنشاء الشعر الذي نعده عنصرا هاما من عناصر الجمال في كل شعر، وحسن الإنشاد قد يسمو بالشعر في المجالس من أحط الدرجات إلى أرقاها، كما أن سوء إنشاد الشعر قد يخفض من قدره وروعته برغم ما قد يتضمنه من ألفاظ عذبة ومعان سامية وصور وأخيلة رائعة، وكان الرشيد فيما يروى عنه يطرب لإنشاد الشعر أكثر من طربه بالغناء. غير أن التدوين والاكتفاء بقراءة الشعر بالعين قراءة صامتة قد أفقده شيئا من جماله الموسيقي في معظم عصور اللغة بعد الإسلام، فبعد أن كانت الأشعار تنتقل من مكان إلى مكان عبر ألسنة المجيدين للإنشاد أصبحت تروى مكتوبة لا منطوقة، وشتان ما بين شعر ناطق وشعر صامت، ذلك لأن إنشاد الشعر يبعث فيه حياة ونبضا، فلا تكاد الآذان تسمعه حتى يسري في القلوب سلسا عذبا رقيقا. وقد ظلت الحال هكذا حتى عصرنا الحديث، فقد كانت الصحف تطالعنا بقصائد الشعراء الكبار فيقرأها معظمنا كما تقرأ الأخبار العابرة أو أننا ننظر إليها دون أن نحرك بها شفاهنا لندرك جمال موسيقاها، فإذا أتيح لأحد منا أن يشهد حفلا ينشد فيه الشاعر من شعره أبياتا أحسسنا بالأبيات تهزنا هزا، فتثير من أحاسيس القلوب والمشاعر ما كان خامدا هامدا، هناك شعراء مجيدون لم يكونوا موفقين في إلقاء الشعر كشوقي مثلا، كان يتخير لإنشاد شعره في المحافل من يجيدون إنشاده وإن لم يوفق في اختياره في كثير من المناسبات، أما حافظ إبراهيم فقد كان يجيد إلقاء شعره وكان يؤثر شعره وإلقاؤه في المحافل الأدبية.

* ذخائر الذيابي - 1990