صورة شباب ينظفون السلاح، يهربون من الموت من أجل ردِّ الموت. جنود رفضوا قتل إخوانهم، وأهالي بلداتهم

صورة شباب ينظفون السلاح، يهربون من الموت من أجل ردِّ الموت. جنود رفضوا قتل إخوانهم، وأهالي بلداتهم وقراهم وهربوا في الفجر، ينظرون إلى بنادقهم الضعيفة، لا يملكون سواها، يعدون طلقاتهم، ويعرفون أن الموت قادم إليهم، السلاح ليس سبباً للعيش، لطالما كان السلاح سبباً للموت، لكن نظام بشار الأسد جعل السوريين يستعذبون الموت على البقاء تحت الذل، شباب لم يتجاوزوا الثلاثين من العمر، يدور حولهم فتيان صغار، هناك فتى ينظر بخفر إلى جندي أكبر منه سناً، هناك فتى في خلفية الصورة، لو أعرف بماذا يفكر؟ يخطر لي أنه يتمنى لو كان أكبر سناً ليحمل السلاح. الفتيان صاروا يفكرون بطريقة لحماية أمهاتهم وأخوتهم الصغار، بعد أن تركهم العالم وحدهم تحت الرصاص، الفتيان الذين كانوا يلعبون بكرة القدم، صاورا يختبئون وراء جندي منشق، ويحلمون بالحرية بعد أن ضاعت طفولتهم!
العلم السوري مطبوع على جدار عتيق. ألوانه الأخضر والأسود والأبيض، يحمله الثوار كرغبة بالانعتاق من نظام القتل، لكن العلم لا يقف وحده على الجدار، الصورة لا تتركه سعيدا على الجدار، الصورة تشركه في الأسى. أسفلها يظهر وجه الشهيد، تزغرد الأمهات لشبابه: شعره أسود كثيف، خده الأسمر، يبدو وكأنه سيفيق بعد قليل، سيطلب من أمه كأساً من الشاي، وسيقول لها بعتب: لماذا وضعوا هذا الخمار الأحمر على رأسه؟ لكن الولد لا يستيقظ، ينام هادئاً تحت العلم الذي من أجله مات. على جدار آخر تتموضع لطخات حمراء، لم يفكر القاتل قبل أن يردي الفتى في الصورة الأخرى، إن كانت طلقة الرصاص سترسم على الجدار شكل اندفاعها، وتخترق رأس الولد.. ما ترونه في الصورة ليس لوحة، ما ترونه قطعة من رأس ولد، وفي طرف الصورة، لن تروا أصابعي التي تمسح على شعر الصغير، وترجوه أن ينام إلى الأبد بعيداً عن عالم بلا ضمير. سيموت الكثيرون غيره، ويتركون لطخات الدماء، ويستمرون بالعيش، وأما صورة الرصاصة والرأس، فستصير لوحة تمر في معرض، لا أكثر ولا أقل. نعم هذا هو العالم المتوحش الآن.
تترك الصورة مجالاً لتقاطع رفوف من خشب، صورة تأتي بعدها، رفوف خشبية فارقة أسفلها تتكوم جثث ثلاثة رجال، وجوههم مشوهة، أجسادهم ممزقة، والدماء تنزُّ من عيونهم، الرجال الذين قطعتهم يد مجرمة يعرفها السوريون، يعرفون أن نظام الأسد وشبيحته لن يتركوا الناس بهناء، يرتكبون المجازر، يقتلون الرجال، ثم يرمونهم، يقولون للشعب: إما نحن، وإما خراب البلد! الرجال يرفضون الذل، يواجهون قوات النظام بأجسادهم.
في الجهة المقابلة للصورة، تخرج صورة مختلفة، تقاوم الموت، الطفل يجلس أمام صف من عبوات الغاز، السوريون يعيشون بلا تدفئة، بلا وقود لتحضير طعامهم، يقضون نهاراتهم للحصول على جرة غاز، كي يتناولوا قسطاً من الطعام، إذا لم يقتلهم رجال بشار الأسد يجوعونهم ويذلونهم. الطفل يجلس هادئاً، لا يعترض، يعرف أن طفولته لا تسمح له بالاعتراض، فأمه في المنزل، ولا أب له، وهو ينظر كرجل ناضج إلى الأمام، ربما ينتظر ساعات في برد الشتاء، والرجال من حوله ينظرون إلى خلاصهم. الجوع، ذلك الشيطان، يعرفه الولد، ويجلس مطمئناً أنه لن يعود حتى يأتي بما يريده، أو يموت برصاص قناص، ليس مهماً الآن أن يكبر الولد، أولاد سورية شاخوا سريعاً، سنة واحدة على طلبهم للحرية كانت كافية ليهرموا.
ويكبر الأطفال، يصيرون فتياناً يتقافزون بين الصخور ويركضون، يحملون البنادق، كانوا قبل سنوات يحملون ألعاباً بلاستيكية ملونة ذات نوع رديء، الآن يظنون أنها ألعابهم، ويتقافزون. صارت البنادق أحلاما للفتيان، نعم تصير أحلاما عندما يصير الموت كالهواء، يعيشونه كما يتنفسون.
يفكرون أن أياما أحلى سوف تنتظرهم، ليسوا مبالين بالموت بعد الآن، يدخنون نارجيلتهم، بعد أن تصالحوا مع الموت، هكذا يعيشون مع الموت وكأنه جزء من يومياتهم، ربما صار ثقافة لديهم، هكذا يقاومون طلقات الرصاص ومدافع الدبابة.. هكذا يقولون للنظام: نحن لن نموت، لأن الموت صار جزءا مناً، ونعرف كيف نقاومه.
العالم يغرق في الدهشة من الصورة. الصور الدموية التي تعج بها شاشات العالم عن وطن أعرفه، لقد تحولت سورية إلى صورة في عين الكاميرا.
تنهمر الصورة، تصنع مسلسلاً عن وطن، أشم رائحة الدم، وأشم رائحة الحياة، هكذا هي صورة حقيقية تفعل فعلها في عين من يراها. تنتقل بين ضحكات المتظاهرين إلى وجوه المشيعين المتعبة، هذا ما يفعله السوريون في جميع مدنهم المترامية، يخرجون طلباً للحرية، يقتلهم الرصاص، فيخرجون في اليوم التالي لتشييع قتلاهم، ويرددون نفس هتافات الحرية، فُيقتلون، ويخرجون، ويُقتلون، وهكذا، لا ينتهي مسلسل القتل، ولا إرادة الحرية. الحرية أقوى من الرصاص. يحملون قتلاهم، يلفونهم بأكياس بيضاء، يرفعونهم عالياً أمام السماء ويصدحون بأهازيح حزينة وفرحة لوداع موتاهم، هكذا تقول الصورة، وتخبر عن الحزن في الوجوه وعن الدموع في العيون.. هكذا تختصر الصورة حكاية وطن. هكذا تتحول الصورة إلى وجه وطن.