أحمد السباعي

فإذا رأيتني اليوم رتيبا أميل إلى الدعة وأخلد إلى السكون في حدود وظيفتي، أو على مقعد دكاني الوثير، أو في ظل دهليز قصري، لا يستخفني تجديد، ولا أجرؤ على الحركة فيما يخرج عن نطاقي، ولا يتسع ذهني لغير ما ألفت في أفقي.

إذا رأيتني على مثل هذه الوتيرة، ورأيت من الناهضين في الحياة يتكلف الصعاب في سن ضاحك، ويجوب الآفاق إلى ما وراء المجاهل دون أن يهاب الحر أو يبالي بالقر.. ورأيته يقحم حياته في أشد الزوايا ظلاما ويمتحن كفاءته في أكثر الأمور غموضا، لا يتعلل بفانوس أو شمعة ولا يخشى على رجله أن ترتطم..

إذا رأيتني كما أسلفت، ففتش عما تحت أثوابي.. إنك ستجد أمي، وستسمع صوتها يهيب بي: وه يا ولدي، وه يا حبيبي.. صمد رأسك من البرد.. زرر صدرك من الهوا.. لا تمش في الظلام قبل ما تاخذ الفانوس.. بطل الكورة لا تعور رجلك.

وإذا رأيت صاحبي الناهض فيما رأيت، فتطلع خلفه لترى أمه وتسمع صوتها يدوي «ارفع صدرك يا شاطر.. أيوه كمان اضرب رجلك».. ألا فليهنأ بصدره المرفوع ورجله الضاربة.. وألف رحمة لرأسي المصمد وصدري المزرر!!

ولم تقتصر أمي على صيانتي من الحر والبرد وحيازتي بعيدا عن مناطق الظلام المجهولة، بل تفضلت المسكينة فغذت خيالي بمئات القصص التي تمثل البعبع وهول الليل والدجيرة، في أساليب أخاذة، وصور مثيرة تركت أثرها في نفسي.

فإذا رأيتني اليوم أتخيل البعبع وراء كل خطوة لم أتعودها، وأخشى أن يفاجئني الهول مختبئا خلف كل فكرة أرتادها في شؤون حياتي، ورأيتني أتصور الدجيرة آلاف الصور كلما غشيتني غاشية من صعاب الأمور ومدلهماتها..

وبالجملة.. إذا رأيتني اليوم أتردد في المواطن التي يعوزها الإقدام، وينتابني الوجل في كل خطوة أخطوها إلى ما لا أعرف..

وإذا رأيتني لا أطمئن إلا إلى ما اطمأنت إليه أمي قبلي..

فثق أنني لا أستحق لومك.. لأن حياتي لا تزيد في نظر الفلسفة الصحيحة عن كونها امتدادا طبيعيا لحياة أمي!!

فهل يرضينا اليوم ونحن على أبواب نهضة جديدة أن ننشئ أبناءنا مثل هذه النشأة العقيمة؟

إننا إذا لغافلون.

نريد يا سيداتي الأمهات أن ننشئ أولادنا أقوياء أمام الشمس، أشداء في مواجهة العواصف، لا يثنيهم ضعف عن أشد الحركات عنفا، ولا يخيفهم وهم في أحلك المناطق ظلاما وأبعد الأمور غموضا.

نريدهم ليكونوا رجالا بكل ما في معنى الرجولة من نضج واستواء لتقوى سواعدهم على بناء المجد الذي نتمناه؟

فانهضوا للفكرة.. ودعونا نمش!!.

* الأعمال الكاملة 2009