لندن: فيصل عباس

الصحيفة البريطانية العريقة تدفع ضريبة باهظة لتجسس صحفييها على هواتف المشاهير

لأول مرة من 168 عاما يستيقظ البريطانيون يوم الأحد دون أن تكون صحيفة نيوز أوف ذا ورلد الأسبوعية على عتبات بيوتهم أو متوفرة عند الباعة والدكاكين، ولمن لم يتابع الأخبار طوال الأسبوع الماضي فالسبب هو أن صحيفة الـتابلويد هذه توقفت عن الصدور بعد فضيحة ملخصها أن عددا من صحفييها شرعوا في التجسس على هواتف عدد كبير من المشاهير وحتى الأناس العاديين بغرض الحصول على قصص مثيرة.
عُرفت نيوز أوف ذا ورلد بخطها الفضائحي الذي تناول بشكل خاص حياة الشخصيات السياسية والرياضية والفنية، لتكشف عبر سنوات عمرها التي قاربت القرنين عددا من العلاقات السرية وحالات تعاطي المخدرات والسرقات، وشملت قائمة ضحايا هذا الخط الفضائحي أشخاصا كثيرين من بينهم الأمير هاري، النجل الأصغر لولي العهد البريطاني الأمير وليام (لتناوله الكحول والعقاقير المخدرة قبل بلوغ السن القانونية)، ونجم الكرة الإنجليزية ديفيد بيكهام (بسبب علاقة عاطفية سرية مفترضة جمعته بمساعدته الشخصية)، وأخيرا المنتخب الباكستاني للكريكت (بسبب مزاعم عن تلاعبهم بنتائج المباريات).
الأكثر مبيعا
كانت نيوز أوف ذا ورلد يوما ما هي الصحيفة الصادرة باللغة الإنجليزية الأكثر مبيعا في العالم، وعلى الرغم من تدني مبيعاتها فإن آخر إحصاء لأرقام توزيعها بحسب مكتب إحصاء التوزيع (أي.بي.سي) يشير إلى أكثر من 2.6 مليون نسخة أسبوعيا. وبسبب مبيعاتها المهولة ودخلها الإعلاني الضخم، لم يكن لدى جهاز التحرير في هذه المطبوعة أي مشكلة في اعتماد أساليب يعتبرها كثيرون مثيرة للجدل في سبيل الحصول على قصة صحفية، مثل استخدام أجهزة التسجيل الصوتي أو المرئي سرا، إرسال صحفيين متنكرين بشخصيات رجال أعمال أو سماسرة بغرض خداع الشخصيات المستهدفة ومحاولة رشوتها (ومن أشهر الشخصيات المستخدمة كانت شخصية الشيخ الوهمي التي كان يؤديها صحفي آسيوي يعمل مع الصحيفة موهما ضحاياه بأنه ثري عربي من الخليج).
في الواقع، كانت السياسة المتبعة في الصحيفة هي احصل على القصة بأي ثمن كما قال دان آرنولد الذي عمل صحفيا استقصائيا فيها لمدة عامين. وفي استعراض كتبه لموقع هيئة الإذاعة البريطانية (بي.بي.سي) عقب فضيحة التنصت، ذكر آرنولد أنه تلقى موافقة على دفع مبلغ 25 ألف جنيه إسترليني ومنح سيارة ورحلة إجازة للحصول على قصة من موظف جمع قمامة.
أما الفضيحة التي قصمت ظهر البعير فهي قيد تحقيق رسمي حاليا، إلا إن ما يفترض أنه حصل هو أن مراسلين للصحيفة استخدموا محققين خاصين للدخول إلى البريد الصوتي لمئات الأشخاص المهمين للصحيفة. وعلى كل فإن هذه الممارسة ليست بالشيء الجديد، فقد أقر مراسل الصحيفة للشؤون الملكية، كلايف غودمان، عام 2007 بالتنصت على هواتف أفراد من العائلة المالكة (وكان رئيس تحرير الصحيفة، آندي كولسون، قد استقال قبل ذلك بأسبوعين ـ ليعين بعد ذلك مستشارا لرئيس الوزراء الحالي ديفيد كاميرون، ومن ثم استقال من ذلك المنصب بعد أن عادت القصة للواجهة مجددا).
مباركة الاختراق
بحلول العام 2010، ظهرت معلومات إضافية بخصوص كمية عمليات الاختراق التي حصلت للهواتف الخاصة (يقال إنها فاقت 4000) التي أكدت أن الأمر لم يكن حالة منعزلة، وأن هذه الممارسة كانت منشرة وأنها أمر معلوم لدى إدارة الصحيفة ومالكتها شركة نيوز إنترناشونال (الذراع البريطانية لإمبراطورية نيوز كورب التي يقف على رأسها عملاق الإعلام العالمي، روبرت مردوخ).
تلا ذلك عدد من الدعاوى القضائية التي رفعها عدد من المشاهير الذين تم اختراق هواتفهم، وقد عرضت الصحيفة تسويات على معظمهم، لكن حجم الضرر بات يفوق التصور حين تبين أن ما كان يمكن أن يكون دليلا جنائيا قد تم حذفه في ربيع العام 2002 من صندوق البريد الصوتي للفتاة ميلي دولر التي كانت مختفية في ذلك الوقت، ليتبين بعد أنها قتلت.
وعلى الرغم من أن الصحيفة كررت اعتذارها، اختار مالكوها إقفالها وصدر آخر عدد من نيوز أوف ذا ورلد يوم الأحد 10 يوليو الجاري، وجاء على صفحته الأولى عبارة شكرا ومع السلامة، في حين برر المقال التحريري للصحيفة ما جرى قائلا ببساطة، ضللنا الطريق.
يرى بعض المحللين أن الوضع الاقتصادي للصحف عموما كان السبب الرئيسي لارتكاب مثل هذه الممارسة، إلا أن البروفيسور جورج بروك ـ رئيس كلية الصحافة في جامعة سيتي اللندنية ـ لا يتفق مع وجهة النظر هذه.
اتجاه خاطئ
يقول بروك لـالوطن إنه على الرغم من أن قضية التنصت حصلت في زمن تتدنى فيه نسب توزيع الصحف بشدة، إلا أن ذلك لا يفسر لماذا تعتمد بعض الصحف على الأرجح، وأحدها على التأكيد، مثل هذه الأساليب. ويضيف: التفسير يأتي من ثقافة غرفـة الأخبـار التي أحست بالضغط لكنها ذهبت بشكل كارثي في الاتجاه الخاطئ استجابة له.
من جهته يقول تشارلي بيكيت، مدير معهد بولس لدراسات الإعلام والمجتمع في جامعة لندن سكول أوف إيكونوميس (إل.إس.إي) بأن قضية التنصت لم تأت نتيجة الضغط التنافسي فقط. ويضيف في حديثه مع الوطن بأن صحف المملكة المتحدة كانت متنافسة على الدوم، موضحا: هذا فشل إداري على الصعيدين التحريري والمؤسساتي كما أنه ذنب الصحفيين الذين اقترفوا جرائم بقرارتهم.
حتى الآن، تسببت قرارات هؤلاء الصحفيين الذين كان يفترض أن تنتج عن تنصتهم قصص تزيد من مبيعات الصحيفة بمشاكل عدة لمجموعة نيوز كورب، حيث لم يتوقف الأمر عند إقفال الصحيفة ولكن المجموعة اضطرت كذلك إلى سحب طلبها السيطرة الكاملة على شركة بي.سكاي.بي المالكة لقنوات سكاي البريطانية التي تملك فيها 39.9%، وحسب القوانين المتبعة في بريطانيا فإن ذلك يعني بأنها حتى لو أرادت أن تطالب بذلك مجددا فلن تتمكن من هذا إلا بعد 6 أشهر.
أما ريبيكا بروكس، آخر رئيسة تحرير لـنيوز أوف ذا ورلد، فقد استقالت من الشركة أول من أمس الجمعة بعد يوم من مقابلة بثتها هيئة الإذاعة البريطانية مع الأمير الوليد بن طلال بن عبدالعزيز آل سعود، وهو ثاني أكبر المساهمين في نيوز كورب بعد روبرت مردوخ.
الأخلاق أولا
الأمير الوليد قال في المقابلة التي جرت على متن يخته في مدينة كان الفرنسية: إذا ثبت أنها كانت متورطة في هذا الأمر فعليها الرحيل، الأخلاق بالنسبة لي هي أمر في غاية الأهمية.
إلا أن مسألة الأخلاق في الصحافة تعد منطقة رمادية، فريبيكا بروكس نفسها سبق واعترفت أنها دفعت المال لعناصر من الشرطة في السابق مقابل الحصول على معلومات، فأين إذاً يرسم الخط الفاصل؟
يعود تشارلي بيكيت من جامعة إل.سي.إي ليقول: هذا سؤال يستحيل الإجابة عليه، فأحيانا يجب على الصحفيين فعل أمور غير قانونية طالما الأمر يصب في مصلحة العموم ـ أما كيف يتم تعريف ما الذي يصب في مصلحة العموم فذلك أمر آخر، وعلى الأرجح يجب أن يتم ذلك من قبل هيئة مستقلة تأخذ في عين الاعتبار حرية الصحافة. ويضيف: شخصيا، أفضل الصحافة غير الخاضعة للسيطرة التي تفعل بعض الأمور السيئة أحيانا عن الصحافة التي يتم التحكم بها ولكنها تحترم نفسها طوال الوقت.