احتفل السودانيون الجنوبيون بمولد دولتهم الجديدة في 9 يوليو الحالي بحضور شخصيات محلية وإقليمية وعالمية بارزة، على رأسهم الرئيس السوداني عمر البشير، وتحت أنظار وسائل الإعلام التي نقلت الاحتفالات إلى كافة أنحاء العالم. لكن هذه الاحتفالات لم تستطع أن تخفي مخاوف المراقبين والمحللين السياسيين، خاصة شعب جنوب السودان، من أن تضيع الجهود المبذولة من أجل بناء دولة إلى التأسيس لدولة فاشلة. فعلى الرغم من أن الاستقلال يفتح الكثير من الفرص للتنمية الاقتصادية والسياسية في جنوب السودان، إلا أنه يفتح الباب لاحتمالات الفشل أمام التحديات المطروحة أيضاً. فتطور السودان الجنوبي إلى دولة تنعم بالفرص أو إلى دولة فاشلة يعتمد إلى حد كبير على مدى استغلال شعب هذا البلد الوليد للفرص المتاحة لتحقيق تحول إيجابي. وقد نشرت مؤسسة بروكينجز الأميركية للأبحاث في يوليو الحالي تقريراً عن الخطوات التي يجب على مسؤولي السودان الجنوبي اتباعها حتى لا تتحول بلادهم إلى دولة فاشلة.
يقول تقرير بروكينجز إن السودان الجنوبي سوف يواجه مزيجاً من التحديات. فهو يحوي ثروة متنوعة من الموارد الطبيعية التي تشمل النفط والأراضي الزراعية، ومن المتوقع أن يأتي الكثير من المستثمرين الذين يجلبون معهم التكنولوجيا الحديثة التي يحتاج إليها البلد بقوة، كما أن ذلك سيوفر الكثير من فرص العمل للشباب. وسيعزز إدارة هذه الفرص بنجاح النمو الاقتصادي ويحسن المستوى المعيشي للسكان المحليين، لكن التحديات في هذا المجال أكبر من الفرص المتاحة. فالبلد يحتاج أولاً لتثبيت السلام. وثانياً، يتميز جنوب السودان بمستوى معيشي منخفض، بدءاً من تدني الخدمات الصحية إلى معدلات مرتفعة من الفقر وتدني مستوى التعليم وانعدام البنية التحتية وغيرها من العوامل السلبية. أخيراً، كل من جنوب السودان وشمال السودان سوف يتقاسمان ديوناً كبيرة، أكثر من 38 مليار دولار. جميع هذه التحديات ستحتاج إلى إدارة هادئة وتخطيط واع حتى يستطيع جنوب السودان أن يتحول إلى طريق التنمية.
لكن التحدي الأهم يبقى تأسيس دولة متحدة. على قيادة جنوب السودان أن تتعامل بحذر مع قضايا الأقليات المتنوعة، لأنه سيكون التحدي الأهم لتجاوز مخاوف الوقوع في فخ الدولة الفاشلة. سيحتاج جنوب السودان لدعم المجتمع الدولي في شكل مساعدات تنموية وإلغاء ديون وتدفق الاستثمارات الأجنبية. ولكن إذا لم تتعاون الجماعات المتنوعة في عملية التطوير وتأسيس الدولة فإن تدفق هذه الموارد لن يكون له أي تأثيرات إيجابية على مستويات المعيشة.
تجنب الخطيئة الأساسية: الفشل في بناء دولة توافقية عمقت اتفاقية استقلال السودان عام 1956 سيطرة الشمال على الجنوب. ويعتقد معظم المراقبين أن تمرُّد الجنوبيين بدأ في الواقع قبل اتفاقية الاستقلال. ففي صيف 1955 تمرَّدت عدة وحدات عسكرية جنوبية ضد ما قالوا إنه اضطهاد الشمال، لكن الحكومة ردت بقسوة وأعدمت حوالي 70 من الجنوبيين بتهمة التحريض على التمرد. غير أن ذلك لم يقض على التمرد، بل رفض كثير من المتمردين تسليم أنفسهم وهربوا مع أسلحتهم ليشكلوا ما يعتقد الكثيرون أنه بداية الصراع من أجل حق تقرير المصير. وحتى خلال الاستعداد لاستقلال السودان، أبدى الجنوبيون الكثير من عدم الرضا. فقد كانوا يفضلون مثلاً فيدرالية دستورية بين الشمال والجنوب، وكانوا يفضلون حكومة علمانية لتجنب سيطرة الشمال العربي المسلم، لكن اتفاقية الاستقلال لم تحقق أياً من هذه الطموحات. ومنذ الاستقلال في 1956 حتى عام 2011، سيطرت الحكومة السودانية في الشمال على شعب الجنوب بشكل كامل.
ويقدم تقرير بروكينجز عدداً من الاقتراحات لتأسيس دولة توافقية تشجع على العيش المشترك وبناء الثروة لتحسين مستوى المعيشة لشعب جنوب السودان. وهذه المقترحات هي:
1-وضع دستور ذي توجهات تطويرية يُركِّز على الوضع الداخلي: على الدستور أن يعكس قيم الشعب الذي وضع من أجل تنظيم حياته، وهذا لا يمكن أن يتحقق إلا إذا كانت عملية وضع الدستور تشاركية وديموقراطية لا تستثني أي عنصر من عناصر الشعب.
2-وجود ضمان دستوري للحرية الاقتصادية: الحرية الاقتصادية أهم عناصر الدستور، لأن ذلك يعطي الحق للمواطنين بالتعاقد ويمكنهم من الدخول في عمليات التبادل التجاري بحرية. والحرية الاقتصادية تعزز التوزيع الفعال للموارد وتنمي الثروة، وكذلك فهي تساهم بشكل كبير في القضاء على الفقر. عدم وجود ضمان دستوري للحرية الاقتصادية كان من أهم العوامل التي أعاقت الاستثمارات في الدول الأفريقية.
3-ضمان مفهوم المواطنة العامة لدولة جنوب السودان: على جنوب السودان أن يؤسس مفهوم المواطنة الذي يتفق مع الدولة العصرية، بحيث يكون الشخص وملكيته تحت حماية الدولة على جميع أراضيها، وليس في مسقط رأسه فقط. وعلى جميع المواطنين أن يتمتعوا بحرية التنقل والهجرة الداخلية دون الحاجة لإبراز بطاقة الهوية. لا يمكن لسكان جنوب السودان أن ينعموا بالأمن والحرية ما لم يقبلوا هذه المقاربة الشمولية للمواطنة.
مع ولادة الدولة الجديدة، على شعب جنوب السودان أن يؤسس لدولة توافقية لكي يضمنوا العيش بسلام ويحققوا تنمية وتطوراً مستداما. وهذا لا يمكن أن يتحقق إلا إذا تعاون جميع أصحاب المصلحة والشأن في بناء الدولة، وأن يحصل جنوب السودان على ما يحتاجه من مساعدات ليبدأ مشوار البناء. ومن خلال دستور ديموقراطي، يستطيع شعب جنوب السودان أن يضمن دستوراً يحد من قدرة المسؤولين على استغلال مناصبهم، ويحصل المستثمرون على ضمانات وحوافز تشجعهم على المشاركة في النشاطات الإنتاجية، ويصبح بالإمكان إيجاد إطار لحل الصراعات بشكل سلمي، وتتأسس بيئة للتعايش السلمي لجميع عناصر ومكونات الدولة.