شعب لا يشبه سواه في صموده الطويل، وفي صبره على الآلام، وتصميمه على الانتصار. شعب متفوق حتى على ظرفه التاريخي، وغطائه السياسي، وبالتالي تصعب مقارنة حالته بما شهدته شعوب أخرى في المنطقة العربية
واحدة من الأخطاء الدارج استخدامها في الخطاب الإعلامي المقروء والمكتوب، هي تعميم صيغة الثورات العربية وكأنها تشكل حالة متكاملة متجانسة الظروف والمنشأ.
ورغم أن هناك ما يجمع هذه الثورات، وبات واضحا ومعروفا، إلا أن الحالة السورية تشكل اختلافا نوعيا، لا يحدُّ من قاعدة الثورات، لكنه يفترق عن مساراتها وآلياتها ومستقبلها أيضا.
انطلقت الانتفاضة السورية من المناطق المهملة الريفية في البلدات والقرى والمدن، ولم تبدأ من برامج وضعها الشباب أو الطبقة المثقفة، بل كانت الحوادث التي أشعلت الناس العاديين هي الجوهر. كانت هناك مفاعيل ثنائية العبد والسيد، التي عاشها السوريون لعقود طويلة، هي الثنائية التي طالما وسمت البشرية بصراع قطبي الحياة؛ الخير والشر في حالته الأكثر تقليدية، وتكثفت في تلك الحادثة (اعتقال الأطفال وتعذيبهم واقتلاع أظافرهم، وإذلال الرجال). وبعد هذه الثنائية، جاءت الخاصية الاستثنائية الثانية، وهي الشعب الفقير المعوز حتى في مستوى تأمين لقمة الخبز، والذي تجاوز ثنائية العبد والسيد، إلى المطالبة بحق المواطنة والعيش الكريم.
الروح السلمية والأخلاقية المتأصلة في نفوس السوريين، هي ما خرجوا للموت من أجله، وهي روح الانتفاضة الحقيقية، ولهذا لا تتلخص في السلمية فقط، بل باختصار صرخة العبد المطالب بالحياة، أمام ما عاشه المواطنون تحت عسف واستبداد الأجهزة الأمنية والحكم الأسدي.
لكن هذا الشعب، الذي كان مصرا على روحه الثورية السلمية، مُحتجَز في كمّاشة ثلاثية الأطراف، تعصر جسده، وتبعده قسرا عن المسارات التي اختارها طوعا، وبعيدا عن الإيديولوجيات والعقائد التي ابتلي بها منذ عقود طويلة.
الطرف الأول، هو نظام عائلي مافيوي ما يزال يثبت يوما بعد يوم أن لا مثيل له في التاريخ المعاصر بطشا وفتكا وإجراما، ويبدو ماضيا في انفصاله عن الواقع المحيط به (خاصة بعد ما رأيناه عبر تسريبات الإيميلات الأخيرة بين بشار الأسد وزوجته أسماء وصديقته هديل العلي حيث تظهر بشكل واضح هشاشة النظام من جهة، وعدم اكتراثه بدماء السوريين لدرجة تبعث على الاستفزاز من جهة ثانية).
هذا الانفصال الذي ما انفك يكرس مبدأ العبد والسيد، منذ أول يوم للانتفاضة، عندما أطلق النظام على المتظاهرين تسمية المندسين، ثم الجراثيم، والعصابات المسلحة، وأخيرا الإرهابيين السلفيين. هذا يعني الإنكار التام لوجود الشعب، والإمحاء المستمر، وكأنه غير موجود في الحياة الواقعية، أو أن هذا الشعب هو مجرد زخرف تراه العائلة الحاكمة من شرفة بيت مطل على واد سحيق، يراقب جيشا جرارا من الكائنات الغريبة الجرثومية المندسة المسلحة، التي يجب سحقها وتدميرها بالكامل، حتى لو كان الثمن تدمير كامل الهضبة التي بني عليها البيت!
هكذا وببساطة، لا أحد يستحق السكنى في هذا البيت الكبير المسمى سوريا سوى هذا النظام، وهؤلاء العبيد نكرات، إنهم مجرد لا شيء، وسحقهم دمويا لن يكون له أي عاقبة.
الطرف الثاني، المطبق على خناق الشعب الثائر، يخرج له من أسفل الهضبة أو منتصفها، وهو المعارضة السياسية المنفصلة عن الواقع بالغالب وليس بالمطلق. منفصلة بحكم عدم الارتقاء لحجم الخراب الناتج عن عدم توحيد صفوفها، فمن يمثل هذا الشعب لم يكونوا على مستوى طاقته واستماتته لنيل الحرية، لا على المستوى الأخلاقي ولا التنظيمي التعاضدي. كما أن هذه المعارضة لم تستطع حتى الآن إنتاج خطاب مستقل وواضح واستراتيجي للمرحلة القادمة، يحمل مشروعا سياسيا للانتفاضة. هذا عدا عن الانشقاقات التي لا تتوقف عن مفاجأتنا بمزيد من التعثر والتبعثر، وحتى الآن لم تتكون ملامح شخصيات قيادية فاعلة ومؤثرة تحظى بثقة الشعب المقاوم، ويستطيع الركون إليها.
هذان الطرفان أنتجا بدورهما ملامح ثنائية العنف والطائفية، التي تُعدّ مقتلا للانتفاضة. ورغم المسؤولية الكاملة والمطلقة للنظام، عن تغذية نزوعات العنف والمشاعر الطائفية، لا نستطيع إنكار حقيقة أن تلك الثنائية القاتلة تُخرج الانتفاضة من استحقاقها الأولي، ووسط هذه الثنائيات، التي تنتج أخرى أكثر صعوبة، يبقى الشعب المقاوم مستمرا في إصراره على إسقاط النظام، رغم أن مسيره على هذا الطريق قد يجعل الأرض تميد تحت قدميه بين حين وآخر، وقد تحرفه عن جوهر ثورته الاستثنائية. ولعل الشعب السوري سيدفع، هو وحده، ومن دماء أبنائه، ووحدته الأهلية ثمن هذا الانحراف، كما دفع هو وحده ثمن مطالبته بالحرية.
شعب أعزل متروك للقتل اليومي، ولنظام يتغلب على الشيطان في براعة ألاعيبه الإجرامية، ويفوق قدرة الخيال في سرد صلف الدكتاتور الدموي عند احتضاره الأخير. شعب لا يشبه سواه في صموده الطويل، وفي صبره على الآلام، وتصميمه على الانتصار. شعب متفوق حتى على ظرفه التاريخي، وغطائه السياسي، وبالتالي تصعب مقارنة حالته بما شهدته شعوب أخرى في المنطقة العربية. إنه فريد في تجربته، يخوضها من الباب الأكثر وحشية، والأشد تماسكاَ في الوقت نفسه. لكنها أيضاَ الأشد انزلاقا نحو الأخطار، للأسف الشديد.