قضية الانتحار ليست وليدة اللحظة بل هي حالة عرفها الإنسان خلال مسيرته التاريخية، وتتنوع المؤثرات التي تودي بالإنسان إلى إتلاف نفسه، والحديث هنا ليس عن حالة الانتحار التي تحدث رغماً عن الإنسان وبلا خياره حين يكون مسلوب الإرادة
كم يحز في الخاطر أن يقدم شاب من هذه البلاد على الانتحار مهما كانت الأسباب والظروف، ذلك أن الانتحار هو يأس وقنوط وهروب من مشكلات الدنيا والجهاد الكبير فيها، إنه حالة من الانهزام أمام الحياة، وإعلان الانتصار للعدم على الوجود، وإعلان الإفلاس من طرق جميع الحلول التي توصل الإنسان إلى أهدافه التي رسمها بدقة، وسار على ما رسم ليصل إلى تحقيق الأماني.
إن قضية الانتحار ليست وليدة اللحظة بل هي حالة عرفها الإنسان خلال مسيرته التاريخية، وتتنوع المؤثرات التي تودي بالإنسان إلى إتلاف نفسه، والحديث هنا ليس عن حالة الانتحار التي تحدث رغماً عن الإنسان وبلا خياره حين يكون مسلوب الإرادة، غير قادر على منع نفسه كم يستحكم عليهم المرض فيؤدي بهم إلى الانتحار، أو أولئك الذين يرون في الانتحار وقتل النفس جهاداً واستشهاداً، فهؤلاء يرون في الانتحار قمة التضحية والفداء كما يتوقعون، إنما الحديث عن اختيار الانتحار للخلاص من الدنيا، الانتحار الذي يعد طريقاً للخلاص من ضغط نفسي أو قصور اقتصادي، أو عدم القدرة على مواجهة مشكلة أسرية أو اجتماعية، أو انكشاف مشكلة معقدة يصعب حلها، أو تحمل مسؤولية لا يستطيع القيام بأعبائها، فيقدم على هذه الجريمة الكبيرة التي عدتها الشريعة من موبقات الأعمال، ومن كبائر الذنوب، فإن كان الكافر يقدم عليه لأنه يقول: (إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر)، فهو يرى أنها خاتمة المطاف، وتعجيل باللحظة الأخيرة، فإن الإنسان المسلم يرى بزاوية مختلفة جداً، فهو يعتقد بأن هناك حساباً وعذاباً وسؤالاً، وأن الموت كما هو خيار نبيل في حالة الدفاع عن النفس والعرض والوطن والجهاد الشرعي، فإن التشبث بالحياة كذلك خيار لأنه ميدان عبادة الله والجهاد في سبيله بعمارة الأرض، وإشاعة الحق، فإن الحياة في سبيل الله أصعب من الموت في سبيله.
تشير دراسات حديثة إلى أن ثمانية ملايين من البالغين في الولايات المتحدة يفكرون بالانتحار في عام واحد، وأنهم وضعوا خططاً لقتل أنفسهم، ويصل عدد المنتحرين في الولايات المتحدة في عام واحد 35 ألف منتحر، كما أن دولاً أوروبية كثيرة تنتشر فيها ظاهرة الانتحار، حيث بلغ معدل الانتحار في العالم منتحراً كل 30 ثانية، بحسب صحيفة ذي لانست البريطانية.
وقد اجتمع بعض الساسة وعلماء النفس بمدينة جنيف في عام2007 في مؤتمر لبحث هذا الموضوع، وجاء في التقرير:
إن معظم المنتحرين من فئة الشباب، وهم الذين يقبلون علي جريمة الانتحار، ومعظمهم مرضى بأمراض، أهمها: الشذوذ الجنسي، وأمراض الاضطرابات النفسية، ويعاني معظمهم من الضياع، وعدم الترابط الاجتماعي في حياتهم، هذا إلى جانب الخواء النفسي، حيث يشعر الشباب بالخواء الروحي، وهو من أهم الأشياء التي تكون شخصية الفرد، ولا سيما أن الشباب في أوربا هجروا الدين، وأصبح الشاب المتدين في قاموسهم إنسانا شاذا! حتى إن الكنائس أصبحت شبه مهجورة ولا يرتادها سوى بعض العجزة والأسر الفقيرة.
وأود أن أشير إلى أننا بحاجة إلى الحسم في موضوع الانتحار، واعتباره جريمة لا يقرها شرع ولا عقل، وأنها تنافي القيمة الإنسانية الحقيقية، وأنها ليست مبررة مهما بلغت التحديات أو القصور في تحقيق المطالب، وأن الإدانة الصريحة لهذه الجريمة العظيمة التي نهانا الله عنها فقال: (ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما، ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا وكان ذلك على الله يسيراً)، وقال رسوله صلى الله عليه وسلم كما جاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة: (من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن شرب سماً، فقتل نفسه فهو يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو يتردى في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا).
إلا أن إدانة هذه الجريمة، وتربية النشء على قيمة الحياة ومواجهة صعابها وتحريم اليأس والقنوط فيها لا تعني عدم تلمس المسببات التي قد تدفع شاباً إلى الإقدام على هذه الجريمة، ومحاولة العلاج السريع لكل ما قد يسبب حالة الإحباط للجيل، وخاصة في وجود مؤثرات الإحباط ودوافعه، وتعقد مشكلات الحياة وصعوبة التعاطي معها، والاستقرار الوظيفي، وهذا يعني ضرورة مكاشفة النفس بالأسباب، والعمل على علاجها، ومناقشة القضية قبل أن تتحول إلى ظاهرة كما هي في الدول الأخرى، وهذا يقتضي تعاون كل القطاعات التربوية والأمنية والوظيفية لمعالجة أوضاع الشباب، وسرعة تنفيذ الخطط الرامية إلى تحقيق الأمن الوظيفي للشباب مما يدفعهم إلى الاستقرار والطمأنينة، وبث الرسائل التوعوية التي تبين رؤية المسلم للحياة وأهمية مواجهة مشكلاتها وعدم القنوط، والصبر، ومحاولة البعث عن كل الفرص الممكنة، وأن المحافظة على الحياة أمانة في عنق الإنسان وإهلاكها ذنب عظيم وأن ما يصيب المسلم في الحياة من مشكلات ولأواء يترتب عليه الأجر العظيم: (عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن)، وأن الانتحار والقنوط من الكفر العملي الذي حذرت منه الشريعة : (قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون).