الموت، والانتقال من دار الدنيا إلى دار القرار، حقيقة لا مفر لأحد منها، وعنه قال إسماعيل العنزي، الشهير بأبي العتاهية، الشاعر المشهور: «الموْتُ بابٌ وكلُّ الناسِ داخِلُهُ * يا ليْتَ شِعرِيَ بعدَ البابِ ما الدَّارُ»، وقد يكون راحة، وقد يكون غير ذلك، فعن سيدنا أبي قتادة -رضي الله عنه- قال: (كنا جلوسا عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ طلعت جنازة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «مستريح، أو مستراح منه»، فقالوا: يا رسول الله ما المستريح والمستراح منه؟، فقال: «العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا وأذاها إلى رحمة الله تعالى، والعبد الفاجر يستريح منه العباد والبلاد، والشجر والدواب..»).
الفقد والفراق بالموت مؤلم جدا، ومن أشد الألم على الإنسان ألم فقده أمه، خاصة إذا لم تكن حياته معها طويلة بالمعنى الزمني، وهو ما رأيته ولمسته في فقد البررة، الأبناء بدر وبراء وباهر، وأخواتهن بيداء وبسنت رضوان، لوالدتهم السيدة ليلى بنت إبراهيم جوهرجي، التي انتقلت إلى الرفيق الأعلى صباح الأحد الماضي، بعد رحلة عابرة مع المرض، وملازمة السرير الأبيض، وبعد حياة جميلة قضتها -رحمها الله- بين طلب للعلم، وحرص عليه، وإدخال السرور على الآخرين، والقيام بما تستطيعه من خدمة وعون، دون تقاعس أو كلل، مع صبر على المآسي، وتحمل ببسالة، وعقلانية، وهدوء، ورزانة للمهام والمسؤوليات، التي لا يقدر عليها كل إنسان.
بعد ثالث أيام العزاء عادة ينفض السامر، كما يقال، ويخلو أهل الميت بأنفسهم، ويعود كل واحد إلى ذكرياته ومذكراته، وهنا أتذكر الأبيات الخالدة للشاعر الفلسطيني، محمود درويش، ومنها قوله في قصيدته الشهيرة (إلى أمي): «أحنّ إلى خبز أمي* وقهوة أمي* ولمسة أمي* وتكبر فيَّ الطفولة* يوما على صدر يومِ* وأعشق عمري لأني؛ إذا متُّ، أخجل من دمع أمي..»، ولهذه الأبيات قصة تستحق التنويه، حكاها الشاعر قائلا: «كانت لديّ عقدة أن أمي لا تحبني، وتحب أخي الأكبر مني، لأنها كانت دائما تعاقبني، وتعتبرني المسؤول عن أي شغب في البيت وفي الحارة، وتقول لي «يا حِلس يا مِلس»، ولم أعلم أنّ شعوري ليس صحيحا إلا حين دخلتُ السجن للمرة الأولى، وأنا في السادسة عشرة من عمري، زارتني أمي في سجن (معصيان)، وهي تحمل الفواكه والقهوة، واحتضنتني، وقبّلتني، فعلمت أن أمي لا تكرهني، ولا أنسى حزنها عندما صادر السجان إبريق القهوة وسكبه على الأرض، ولا أنسى دموعها، فكتبت لها اعترافا شخصيا في زنزانتي، على علبة سجائر: أحنُ إلى خبز أمي..، وكنت أظن أن هذا اعتذار شخصي من طفل إلى أمه، ولم أعرف أن كلماتي ستتحول إلى أغنية يغنيها ملايين الأطفال العرب»..
لا يمكن أن يشعر بفقدان الأم إلا من ذاق طعم الفراق والغياب، فرحيلها رحيل للحنان، والأمان، ولكل شيء مميز. اللهم ارحم من رحل من أمهاتنا، وبارك في الباقيات منهن، ووفقنا لبرهن أحياء وأمواتا.