منذ منتصف الأربعينات فجر السرياليون بقيادة أندريه برايتون قضية استقالة الفن من خدمة القضايا الإنسانية وانشغاله بذاته، إلى حد أن فكرة عمل الفنان أثناء النوم بدت وكأنها تقدم إنجازا مذهلا، يقطع مع ماضي الفن وتاريخه باعتبار أن الحلم هو أكثر ما يعبر عن الدواخل الأصيلة للفنان.

لكن كما يؤكد الواقعيون "جيورجي جاتشف" مثلا، لا يوجد شيء خارج الواقع، وكل شيء في الفن، سبق أن وجد من قبل في الواقع.

بهذا المعنى تأمل الحضور أعمال الفنان عثمان الخزيم المعروضة الآن في أتيليه جدة. قدم الفنان تسعين عملا بأحجام متفاوتة، ووهب جزءا من ريع أعماله إلى جمعية خيرية تعنى بالأطفال المعاقين، وهو سلوك يذهب باتجاه معنى حضور الفن في حياة الإنسان، وبمعزل عن مكونات هذا الفن وتعاليه يبقى المعنى الكلي الذي يربط الفن بالخير والفنان بالمجتمع، وهو ما يحيلنا مرغمين إلى مادة الفن نفسه باعتباره منتجا جماليا يخدم بشكل ما الوجود الفعلي للإنسان.

يعتبر الفنان عثمان الخزيم نفسه تجريبيا، وهو يتحدث إلى "الوطن" عن لحظة وقوفه أمام المسطح الأبيض الذي يثير فيه شهوة الاتصال.

لكن السؤال الذي يطرح في مثل هذه اللحظة عن الشهوة والاتصال هو اتصال بمن وشهوة لمن؟

الإجابة التي يرد بها الفنان الاتصال بالذات وبالآخر في آن واحد، فعبر اللون والأشكال يعبر الفنان عما بداخله، وهذا أمر يكاد يكون مسلما به، أما الآخر فيحضر متخفيا، على الرغم من التقاليد الحديثة التي تعتبره عدم وجوده مسألة يفرضها الشعور بالتعالي الفني، بحيث يتوهم الفنان أنه يرسم لنفسه، وهي عبارة قالها ذات يوم الفنان السوري المهاجر "مالفا" حين عرض أعماله في صالة "روشان" بجدة بأسلوبين مختلفين، مجيبا عن سؤال: لماذا تختلف وتتفاوت أعمالك؟ بالقول: هذا لي وهذا لهم.

الـ "هم" هذه، هي ما يعبر عنه فلاسفة ما بعد الحداثة بالفن كسلعة، نحن نرسم لهم، نرسم لنبيع أعمالنا لهم، بالتالي نرسم لنعيش، الفن جزء من كلية الوجود الاجتماعي، لكن الفنان منفصل ومرتبط في آن واحد مع هذا الوجود.

تحضر شهوة الاتصال عند الخزيم في لحظة الانفصال هذه، فيفرش ألوانه على المساحة البيضاء من دون فكرة مسبقة ولا تخطيط لما ستؤول إليه اللوحة.

يتشابه هذا مع الحالة الشعرية، إن جاز لنا أن نقارن بين إيقاعين، إيقاع اللون والإيقاع الصوتي، تمثل الألوان نغمات متعددة ومتفاوتة ومتعارضة أحيانا، لكنها فيما يشبه السمفونية تتآلف في كلية العمل لتخلق وحدة في التعدد، هكذا يخرج الفنان من فوضى الألوان إلى وظيفتها، لكن عثمان الخزيم لا يترك لهذه الوظيفة فرصة السيطرة على ألوانه وتوجيهها على الرغم من أكاديمته التي تظهر في التشريح، لكن هذا المظهر الأكاديمي يأتي بعد استقرار اللون بسماته الجمالية الفطرية، وانتقاله من الفوضى إلى الانسجام، حيث يكتشف كما يقول الخزيم أشكالا في اللوحة تحتاج إلى لمسات لإبرازها، وهذه هي العقلانية في العمل الفني حيث يتبدى موضوع العمل في نساء متدثرات بالألوان، ووجوه تخرج من غابة اللون لتطل على ما يبدو أنه عالم بلا معنى وبلا مشاعر.

يتحدث الفنان عن هذه الوجوه بوصفها أثرا من آثار التجربة بمعناها الإنساني، فهي تحضر صدفة، أو يتم اكتشافها في الغابة اللونية صدفة، وكما لو أنها كائنات تتوسل الفنان لإبراز وجودها، فيعمل الفنان على وضع لمساته الأخيرة لإرضائها.

والسؤال المقترح هو: من يرضي من؟

براكين اللون واندفاعاته الصريحة وكثافته وثقله في أعمال الخزيم، لا تستطيع أن تخفي تعبيريته، على الرغم من مظهرها التجريدي.